
لم تكن ثورة المصريين مجرد هبّة عابرة، بل كانت تجسيدًا حيًا لوحدة أمة ترفض الذل.
فبعد اندلاع الشرارة في بولاق، تحوّل الغضب إلى عمل منظم، قاده المحروقي (كبير تجار القاهرة) الذي سخّر أمواله وموارده لتمويل المقاومة.
وانضمّ إليه الناس من كل فئات المجتمع، يقدم كلٌ ما يملك: الغني بماله، والفقير بجهده، والأرياف بما تنتج من غذاء وسِلَع.
لقد حوّلوا الغضب إلى وقود للثورة.
وصف المؤرخ المعاصر الجبرتي بألمٍ ما حلّ ببولاق وأهلها، لكنه أيضًا سجّل بأبّهة صمودهم واستبسالهم.
لكن الأصدق من شهادة أبناء البلد، هي شهادة الأعداء أنفسهم! فالمؤرخ الفرنسي “جالان” يسجل بحرفية
إنه في 14 أبريل 1800، أُنذر أهل بولاق بالتسليم، فرفضوا بكبرياءٍ نادر، قائلين: ‘نحن جزء من القاهرة، وسندافع عن أنفسنا حتى الموت’.
فحاصرهم الجنرال فريان بقصف مدفعي عنيف، لكنهم ردوا بالنار واستبسلوا في الدفاع، متحصنين في بيوتهم التي حوّلوها إلى قلاع.
اضطر جنودنا لاقتحام كل بيت بالحديد والنار.
بلغت شراسة الدفاع حدًا لا يُوصف.
عُرض العفو عليهم فأبوه.
أخيرًا أحرقنا المدينة وتركتها للنهب، فجرت الدماء أنهارًا في شوارعها، وأكلت النيران كل شيء.
مدينة كانت عامرة فأصبحت خرابًا.
هذه ليست رواية ضحية، بل اعتراف جندي محتل!
بعد ثلاثة أشهر من إخماد الثورة، عادت الروح من جديد بسليمان الحلبي، البطل الذي اغتال كليبر قائد الحملة الفرنسية ومساعده، ليؤكد أن الثورة لم تمت، بل ستتواصل حتى يتحرّر الوطن.
لقد صنع المصريون عبر التاريخ درسًا لا يُنسى أنهم شعب لا يُخدع بسهولة، ولا تُسرق ثوراته.
إن من يتوهم – سواءً قوى انتهازية محلية أو استعمارية خارجية – أنه قادر على كسر إرادة هذا الشعب، فهو واهم.
فالثورة القادمة، إن حانت ساعتها، ستكون أقسى وأجدر بإنهاء ظلم طال أمده.
هذه هي مصر: شعبٌ يصنع التاريخ بدمه وإرادته.
ذلك هو المصري.. أيها السادة.