
في مارس ١٩٨٣، كنتُ أعيش لحظة من تلك اللحظات التي تُشكِّل وعي الإنسان وتحدد ملامح مساره. كنتُ وقتها رئيسًا لاتحاد طلاب كلية الحقوق بجامعة المنصورة، أؤمن أن الجامعة منبر للحرية، وأن الطلاب شركاء في صناعة الوعي، لا مجرد متلقّين. دعوتُ أستاذنا الكبير أحمد بهاء الدين إلى ندوة طلابية، إيمانًا بأن الفكر هو السلاح الأقوى في مواجهة الجمود. غير أن الأجهزة الأمنية رأت غير ذلك، فألغت الندوة، وقررت اعتقالي، وكان وزير الداخلية آنذاك اللواء حسن أبو باشا.
لم أدرِ يومها أن القدر سيرسل إليّ ضوءًا من قلمين كبيرين في سماء الصحافة المصرية. كتب أحمد بهاء الدين في مقاله اليومي بجريدة الأهرام، الذي كان يحتل الصفحة الأخيرة تحت عنوان “يوميات”، كلمة حق يطالب فيها بالإفراج عني. وفي اليوم نفسه، كتب أستاذي الحبيب مصطفى أمين في مقاله الشهير “فكرة”، الذي كان يزين الصفحة الأخيرة من جريدة الأخبار، المعنى ذاته، بروحه الإنسانية المشرقة. كان موقفهما بالنسبة لي ليس مجرد تضامن، بل شهادة ميلاد جديدة لليقين بأن الكلمة أقوى من القيد، وأن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل ضمير وطن.
تلك المقالات، التي خطها بهاء الدين ومصطفى أمين في يوم واحد، صنعت دينًا في رقبتي. دينًا لا يسقط بالتقادم، بل يزداد رسوخًا مع الزمن. وكلما استعدتُ تلك اللحظة، أدركت معنى أن الصحافة، حين تكون صاحبة الجلالة بحق، تُصبح قادرة على رد الظلم وإنقاذ الأرواح.
بعد أربعة أعوام، وفي صيف ١٩٨٧، كنت قد انتقلت إلى إقامة مؤقتة في لندن، بعد معركة طويلة مع وزير الداخلية زكي بدر. هناك، جمعتني الأقدار بلقاء استثنائي. كان الدكتور خالد جمال عبد الناصر، الذي عرفتُه أول مرة قبلها في بلجراد، حين زرتُه في بيته، وهناك التقيتُ بالصديق العزيز حمدين صباحي، وبالراحل الكبير سليمان الحكيم، وقت أن كان خالد متهمًا في قضية “ثورة مصر” الشهيرة، مضطرًا للهجرة المؤقتة عن وطنه. ظلّت تلك الذكرى محفورة في وجداني كأول خيطٍ يربطني بخالد الإنسان، المثقف، الوطني، والابن الذي حمل أثقال اسم أبيه ومحنة عصره.
وفي لندن أيضًا، شاءت الأقدار أن يكون لقاؤنا الثاني مختلفًا. كنت في شهر العسل بعد زواجي، في مثل هذا الشهر من عام ١٩٨٧، حين دعانا خالد عبد الناصر وزوجته الكريمة إلى غداء سياسي – ودي على شرف أحمد بهاء الدين وزوجته. امتد اللقاء في مطعم قريب من السفارة المصرية قرابة ثلاث ساعات، لكنه كان في جوهره “وليمة فكرية” كاملة. خلاله، أهداني بهاء الدين نسخة من كراسة صغيرة بعنوان “الذاكرة”، أعدها نجله زياد بهاء الدين، وكانت تحمل بين دفتيها مزيجًا من الحقائق والأوجاع المرتبطة بالقضية الفلسطينية. تلك الكراسة الصغيرة كانت بالنسبة لي بوابة لفهم أعمق للقضية، وكيف تتشابك الخيوط بين التاريخ والسياسة والإنسان.
لكن ما بقي في قلبي من تفاصيل تلك الأيام لم يكن فقط الحوار أو الكراسة، بل لمسة إنسانية خالصة من خالد عبد الناصر. فقد كان، من فرط لطفه وكرمه ورقة شخصيته، يأتي كل صباح إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه في قلب لندن، ويضع أمام باب غرفتي باقة ورد جديدة، ثم ينصرف بصمتٍ نبيل، ليعود في اليوم التالي ويكرر المشهد ذاته. كانت تلك الباقات رسالة صامتة تقول: إن الصداقة موقف، وإن النبل صفة لا تُكتسب بل تُولد مع أصحابها.
أذكر أن أحمد بهاء الدين، في حديثه على مائدة ذلك الغداء، قال عبارته الشهيرة: “السياسة ليست أن تقول للناس ما يحبون أن يسمعوه، بل أن تقول لهم ما يجب أن يعرفوه”. هذه العبارة وحدها كانت درسًا في معنى الشجاعة الفكرية.
تذكرت هذه الجمله الخالده في ذاكرتي في الايام القليله الماضيه من شهر اغسطس عام 2025. تذكرت اننا احيانا نخضع الابتزاز عاطفي وارهاب فكري حتى ممن هم خارج السلطه، خاصه هؤلاء الذين يمتطون منصات على السوشيال ميديا ويتوهمون انهم يحتكرون الحقيقه وانك ان قلت كلاما مغايرا لما يرددونه فقد صبأت او خرجت عن المله. بعض الذين تربوا في مدارس لا تعترف بالاخر لا تريد ان تسمع الا صدى لاصواتها. احيانا اجد نفسي اخوض معارك لا املك ادواتها من التسفل والتدني والافتراء والاجتزاء والغش والدعاء البطوله الزائفه والتدني في مستوى النقاش،
بفعل هذه الأجواء المرضية افكر مليا في الانسحاب من هذه المعارك ترفعا. لكن صوت الاستاذ احمد بهاء الدين وهو يقول، هذه الجمله الخالده يدفعني ان اقول كلمتي واطرح راي وانا اعرف مسبقا، ثمن الراي والصوت المختلف.
عظمة بهاء الدين لا تقف عند مواقفه الأخلاقية والإنسانية فقط، بل تمتد إلى إرثه الصحفي والفكري. فقد كتب مقاله الشهير “السداح مداح” ناقدًا سياسات الانفتاح الاقتصادي، فأغضب الرئيس أنور السادات، لكنه لم يتراجع، بل حكى لي يومًا أن السادات اتصل به شخصيًا وناقشه في محتوى مقاله. هكذا كان الكبار يتعاملون مع الكلمة: يحترمونها، حتى وإن جرحتهم.
لم يكن أحمد بهاء الدين صحفيًا عابرًا، بل كان مدرسة قائمة بذاتها. مدرسة علمتني أن الصحافة ليست فقط ما يُكتب على الورق، بل ما يُترك في ضمير القارئ من أثر. علمني أن الحقيقة لا تُجزأ، وأن الأمانة في الكلمة أثقل من كل مناصب الدنيا.
اليوم، في ذكرى رحيله، أستعيد كل تلك الملامح: بهاء الدين الإنسان، والصحفي، والمفكر، والضمير. وأستعيد معه جيلًا من الصحفيين الكبار؛ من أمثال مصطفى أمين، الذين كانت أقلامهم تُكتب بالمداد والدمع، لا بالحبر وحده. جيل لم يساوم على شرف الكلمة، ولم يفرط في قدسية صاحبة الجلالة.
وإذا قارنا جيلهم بجيلنا أو بجيل اليوم، نجد أن الفارق ليس فقط في الظروف، بل في المواقف أيضًا. جيلهم كتب في وجه الرؤساء وانتقد سياساتهم دون خوف أو مساومة، فاحترمهم الحكام رغم الغضب. أما جيل اليوم، فإما أن يختبئ خلف الصمت، أو أن يسوّغ للباطل بمداد التزييف. بين من حملوا أقلامهم كالسيوف دفاعًا عن الحقيقة، ومن حملوا الأقلام كريشة تزين عرش السلطان، تقف المسافة الفاصلة بين جيل الصحافة الحرة وجيل الصحافة المأسورة.
رحم الله أحمد بهاء الدين، الذي عاش كبيرًا ومات كبيرًا، كريمًا، محتفظًا بضميره وقيمه. رحم الله أساتذتي، الذين تركوا لنا إرثًا من المواقف أعظم من أي مقالات.