مقالات وآراء

د. تامر المغازي يكتب: استقالة وزير الخارجية الهولندي صدمة أخلاقية في لاهاي ودرس في الواجب الدبلوماسي

وزير خارجية هولندي يدفع ثمن مبادئه بينما يتوارى نظراؤه العرب خلف صمت مطبق.

في خطوة نادرة تهز المشهد السياسي الأوروبي المائع، قدم وزير الخارجية الهولندي كاسبار فالديكامب استقالته من منصبه، بعد أن فشل في إقناع حكومته الائتلافية بتبني موقف أوروبي موحد لفرض عقوبات على دولة الاحتلال الإسرائيلي، رداً على استمرار عملياتها العسكرية في غزة والتي خلفت آلاف الضحايا من المدنيين.

هذه الاستقالة ليست مجرد تغيير في تركيبة الحكومة الهولندية؛ إنها بوصلة أخلاقية تشير إلى فجوة عميقة بين القيم المعلنة والواقع السياسي، وتطرح سؤالاً محرجاً عن مفهوم السيادة والكرامة في الدبلوماسية المعاصرة.

لم تكن استقالة فالديكامب مفاجئة بقدر ما كانت حتمية.

لقد وصل إلى نهاية الطريق بعد معركة داخلية شرسة داخل مجلس الوزراء، حيث اصطدمت رؤيته الأخلاقية والقانونية بجدار من “البراغماتية السياسية” والرهانات الجيوسياسية.

كان كاسبار يرى أن دور هولندا، كدولة مؤسسة في الاتحاد الأوروبي وموطن لمحكمة العدل الدولية، يفرض عليها أن تكون في الصف الأول للدفاع عن القانون الدولي وحقوق الإنسان

فشله في تمرير موقف عقابي واضح ضد انتهاكات جيش الاحتلال كان، في نظره، فشلاً للدولة الهولندية في الوفاء برسالتها التاريخية والإنسانية.

في بيان استقالته، لم يترك فان ديك مجالاً للالتباس، مشيراً إلى أن “استمرار العمل ضمن إطار حكومي لا يستطيع اتخاذ إجراءات ملموسة لوقف المعاناة في غزة يتعارض مع ضميره ومع المبادئ التي يؤمن بها”.

هذه العبارة وحدها تشكل درساً في المسؤولية السياسية، حيث فضّل المسؤول التنحي عن منصبه ذي النفوذ على أن يبقى شاهداً صامتاً على ما يعتبره انهياراً أخلاقياً.

هنا، تفرض نفسها مقارنة لا يمكن تفاديها، وإن كانت مؤلمة، مع أداء العديد من وزراء الخارجية العرب.

بينما يستقيل وزير في حكومة غربية لأن بلاده لم تفرض عقوبات على الاحتلال، نجد أن مسؤولين عرباً في مناصب مماثلة يتحركون ضمن مساحة ضيقة جداً، يقتصر دور الكثيرين منهم على إصدار بيانات استنكار “مُدينة” و”مشجعة لوقف إطلاق النار”، من دون أي أدوات ضغط حقيقية أو حتى إرادة سياسية لاستخدام تلك الأدوات إن وجدت.

الفرق الجوهري ليس في القوة، بل في الإرادة والسيادة.

كاسبار فالديكامب، ممثلاً لدولة متوسطة الحجم، كان يملك إرادة استخدام أدواته الدبلوماسية والاقتصادية (وإن فشل في النهاية)، بينما يبدو العديد من نظرائه العرب وكأنهم مسؤولون في إدارات تابعة، لا يملكون إلا التعبير عن “القلق” و”الاستياء”.

لقد تحولت الدبلوماسية العربية، في أفضل حالاتها، إلى دبلوماسية “رد الفعل” وليس “الفعل”، واختزلت القضية المركزية للأمة إلى مجرد ملف ضمن ملفات أخرى.

وفي خضم هذا المشهد، تبرز مقولة “على حماس أن تسلم سلاحها” كحل سحري متكرر ترفعه بعض الحكومات العربية، بمعزل عن سياقها السياسي.

إن اختزال قضية شعب بكامله، يعاني تحت وطأة حصار غير إنساني واحتلال استيطاني عنصري، إلى مسألة سلاح فصيل مقاومة معين، هو هروب من جوهر المشكلة.

هذه المقولة تكرس نفس المنطق القائم على تحميل الضحية مسؤولية دفاعها عن نفسها، بينما يُعفى المحتل من أي مسؤولية.

الأجدر بوزراء الخارجية العرب، إذا ما أرادوا فعلاً إظهار جدية، أن يتبنوا خطاباً متوازناً يربط بين أي حديث عن مستقبل غزة وما بعد الحرب وبين إنهاء الاحتلال بشكل كامل وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة.

السيادة لا تُمنح، بل تُؤخذ، والدبلوماسية هي إحدى أدوات نيلها، وليس تبرير فقدانها.

استقالة كاسبار فان ديك هي رسالة قوية.

رسالة إلى الحكومات الغربية عن ضرورة أن تتحلى سياساتها بالصدقية

وهي رسالة أكثر قوة إلى الدبلوماسيين والمسؤولين العرب إن الكرامة والسيادة لا تُمنحان، ولا تُكتسبان بانتظار المبادرات الخارجية.

إنها تُبنى بالإرادة السياسية والشجاعة الأخلاقية، حتى عندما يكون الثمن باهظاً.

قد يكون فان ديك قد خسر منصبه، لكنه كسب شيئاً لا يقدر بثمن احترام ضميره وتاريخه.

والسؤال الذي يظل عالقاً: متى سيكتسب نظراؤه العرب نفس الاحترام؟

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى