مقالات وآراء

نادر فتوح يكتب: عودة “المواطنين الشرفاء”.. من لجان مبارك إلى سفارات الخارج

لم تكن ظاهرة ما عُرف بـ”المواطنين الشرفاء” وليدة أحداث يوليو 2013، بل هي امتداد لنهج قديم بدأ مع نظام مبارك، حين جرى استخدام البلطجية في أوقات الانتخابات لتقفيل اللجان ومنع المعارضين من التصويت للمرشحين المنافسين.

يومها لم يكن المصطلح قد صيغ بعد، لكن الممارسة كانت قائمة “مجموعات مدفوعة أو محمية من أجهزة الأمن تتولى مهمة العنف بالوكالة عن الدولة، لتضفي على قمعها صورة الغضب الشعبي”.

من انتخابات 2005 البرلمانية إلى 2010

في انتخابات 2005 البرلمانية التي شهدت ترشح جماعة الإخوان المسلمين كمستقلين، برزت الظاهرة بوضوح أكبر، فقد امتلأت اللجان بالبلطجية لمنع الناخبين من الوصول إلى صناديق الاقتراع، كما جرى الاعتداء على مراقبين صحفيين وحقوقيين كانوا يحاولون توثيق الانتهاكات، وتحدثت تقارير حقوقية في ذلك الوقت عن إصابة العشرات في محيط اللجان الانتخابية.

وفي دوائر بعينها مثل دمنهور وشبرا والشرقية، جرى رصد عمليات اعتداء واسعة، حيث وُثقت حالات إطلاق نار واعتداءات بالأسلحة البيضاء على ناخبين يشتبه في دعمهم لمرشحي المعارضة، وكانت النتيجة فوز الحزب الوطني بأغلبية كاسحة رغم الغضب الشعبي، بينما حصل الإخوان على مقاعد محدودة بعد معارك شرسة داخل اللجان.

هذا كله رسّخ فكرة أن الدولة لن تسمح بأي منافسة سياسية إلا عبر أدوات العنف والتزوير، وهو ما شكّل تمهيدًا لانتخابات 2010 التي كانت الأكثر تزويرًا وفجاجة.

الانتخابات الرئاسية 2005

في نفس العام، أُجريت أول انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ مصر الحديث، وكان لافتاً فيها أن “المواطنين الشرفاء” لعبوا دورًا واضحًا أيضًا، فقد جرى تنظيم مسيرات دعائية قسرية تهتف باسم مبارك، فيما تعرض أنصار أيمن نور لمضايقات واعتقالات واعتداءات، حتى أن مقر حملة أيمن نور تعرّض لحصار واعتداء مباشر، بينما صُوّر المشهد إعلاميًا على أنه التفاف شعبي عفوي حول الرئيس.

هذه الانتخابات كانت نقطة فارقة، لأنها دشنت بشكل رسمي أسلوب استخدام البلطجة المجتمعية لتجميل صورة النظام وإحباط أي محاولة للمنافسة السياسية، تحت غطاء “مواطنة شريفة” و”حب الوطن”.

من انتخابات 2010 إلى انقلاب 2013

في انتخابات 2010 البرلمانية، كانت مشاهد البلطجية الذين يقفون أمام اللجان ويمنعون دخول الناخبين المعارضين أبرز الأدلة على حجم التزوير، كثير من الصحفيين وثّقوا اعتداءاتهم، ورغم أن شكاوى وصلت إلى القضاء، إلا أن أجهزة الدولة وفرت لهم الحماية، هذه الممارسات أعادت إنتاج نفسها بقوة بعد انقلاب 2013،

خرجت المظاهرات الرافضة للانقلاب، فظهر “المواطنون الشرفاء” لأول مرة كمصطلح إعلامي، يهاجمون المتظاهرين بالهراوات والسكاكين، ويعتدون على النساء والأطفال، بينما الشرطة تتفرج أو تشارك، في مشهد يعكس التداخل الكامل بين مؤسسات الدولة وميليشيات الشارع.

ولم يكن المشهد مقتصرًا على القاهرة وحدها، بل تكرر في مدن كبرى مثل الإسكندرية والمنصورة، حيث ظهرت مجموعات منظَّمة تتبع نفس الأسلوب.. هتافات تمجّد السلطة، يعقبها اعتداءات وحشية على المتظاهرين، كان الهدف دائمًا واضحًا وهو كسر أي محاولة للتعبير السلمي وإشعار المعارضين بالعزلة والخوف.

التحريض العلني من مؤسسات الدولة

ما بعد 2013 شهد نقلة خطيرة حيث لم يعد الأمر مجرد تواطؤ، بل صار تحريضًا صريحًا، الإعلاميون الموالون للنظام تنافسوا في وصف المعارضين بـ”الخونة والعملاء”، ودعوا صراحة إلى استهدافهم،

وبجانب ذلك، لعبت القنوات الرسمية والخاصة دورًا مباشرًا في صناعة “المواطن الشريف”، فبرامج حوارية شهيرة منحت هؤلاء لقب “أبطال الشارع”، وقدمتهم كجزء من النسيج الوطني الذي يواجه “المخربين”، وهكذا تحولت الممارسات الخارجة عن القانون إلى فضيلة إعلامية، وجرى الترويج لها كوسيلة لحماية الدولة من السقوط.

“مواطنون شرفاء” أمام السفارات

مع دعوات المصريين في الخارج للتظاهر أمام سفاراتهم، ظهرت مجددًا مجموعات من مؤيدي النظام ترفع شعارات “حماية الدولة”، لكنها تلوّح بالاعتداء على كل من يقترب من الاعتصام أو الاحتجاج، في لندن وأمستردام مثلاً، وثقت مقاطع فيديو تهديدات واعتداءات لفظية ضد متظاهرين سلميين،

وهنا تبرز المفارقة الأكبر: فقد نُشرت تسجيلات صوتية منسوبة لوزير خارجية مصر نفسه، يتوعد فيها المعارضين أمام السفارات، في سابقة غير معهودة تكشف أن الدولة لم تعد تكتفي بترك “المواطنين الشرفاء”

يتحركون بمفردهم، بل باتت تدفعهم دفعًا وتشجعهم صراحة على مطاردة خصومها حتى في الخارج.

وهنا لم يطل الصبر الغربي؛ إذ ألقت الشرطة البريطانية والهولندية القبض على ثلاثة من هؤلاء “الشرفاء”، في رسالة واضحة أن القانون الغربي لا يسمح بتكرار مشاهد “تقفيل اللجان” أو “البلطجة على المظاهرات”.

وما يلفت الانتباه أن نفس الأشخاص الذين يقدَّمون في الداخل كـ”حماة الدولة” تحولوا في الخارج إلى مجرد متهمين بخرق القانون العام، لكن الفرق الوحيد أن البيئة القانونية الأوروبية لم تسمح باستمرار اللعبة القديمة، وهو ما كشف هشاشة الفكرة ذاتها.

دلالات عودة الظاهرة

عودة “المواطنين الشرفاء” تحمل أكثر من دلالة:

  1. غياب السياسة: في ظل إغلاق المجال العام، لم يعد هناك وسيلة للتعبير سوى الشارع، فاستُعيض عن الحوار السياسي بالعنف الاجتماعي.
  2. تصدير الأزمة: النظام لم يعد يكتفي بضبط الداخل، بل يحاول ملاحقة معارضيه حتى في الخارج عبر “أذرع غير رسمية”،
  3. افتضاح التناقض: ما يُبرَّر في الداخل تحت شعار “حماية الدولة”، يصبح في الخارج جريمة تُعاقب عليها القوانين الصارمة.

كما تكشف عودة الظاهرة أن النظام يعتمد على نفس الأدوات القديمة رغم تغير الزمن، فبدلًا من بناء توافق سياسي أو البحث عن حلول، يلجأ إلى استنساخ آليات القمع وتجميلها بمصطلحات مثل “المواطن الشريف”، النتيجة أن الصورة الذهنية للدولة تزداد سوءًا في الخارج.

فما بين انتخابات 2005 وما تلاها، وانتخابات 2010، ومجازر ما بعد الانقلاب، وتهديدات أمام السفارات في 2025، يبدو أن “المواطنين الشرفاء” لم يعودوا مجرد أداة ظرفية، بل جزء من منظومة تستند إليها السلطة في مواجهة خصومها، لكن الفارق اليوم أن العالم بات يراهم كما هم: بلطجية بوجه رسمي، لا أكثر.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى