شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: إذا كتبت بيانًا لميدو… فلْتكتب عشرةً لأبناء النوبة

قال المفكر والمحامي الليبرالي مكرم عبيد: “الحرية لا تُجزّأ، والعدل لا يُقسم، فإذا سقط جزء منهما سقطا معًا.” … وهي كلمة تصلح لتكون مدخلًا إلى هذه القضية، فالقانون والعدل لا يعرفان نصف المواقف ولا انصاف البيانات.

لست ضد البيان الذي صدر بحق الشاب ميدو أو أحمد عبدالقادر، فكل مصري في الخارج يستحق أن ترعاه دولته، مهما كان الخلاف معه أو الاتفاق عليه.

الاعتراض أن تتحول بيانات الدولة إلى مرآة انتقائية، تُكتب لشخص واحد، بينما يغيب عشرة من خيرة أبناء النوبة في محنة أشد قسوة وأشد إيلامًا. وكأن المواطنة درجات، وكأن الدستور مجرد حبر على ورق لا عقد مُلزم بين الدولة وأبنائها.

الدستور المصري لا يقبل هذا الانتقاء. المادة الثالثة والخمسون تؤكد أن المواطنين لدى القانون سواء، متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة بلا أي تمييز. المادة الثامنة والثمانون تلزم الدولة برعاية مصالح المصريين بالخارج وحمايتهم وضمان حقوقهم. والمادة الثالثة والتسعون تُقر أن الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من مصر لها قوة القانون. هذه النصوص لم تُكتب لتزيين الدفاتر، بل لتكون سيفًا للعدالة، ودرعًا يحمي كل مصري في أي مكان.

الاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها مصر تزيد الأمر وضوحًا. فالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ينص على المساواة أمام القانون والتمتع بالحماية على قدم المساواة دون تمييز. واتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية تُلزم الدولة بحماية رعاياها في الخارج، وتكفل للمحتجزين حق الاتصال بمحاميهم وسلطات دولتهم دون إبطاء. كما أن الميثاقين العربي والأفريقي لحقوق الإنسان يكرّسان مبدأ المساواة وحماية المواطنين في الخارج.

على أرض الواقع، يقف عشرة من أبناء النوبة يواجهون محكمة عليا بلا محامين ولا تهم معلنة. هم: عادل سيد إبراهيم فقير، د. فرج الله أحمد يوسف، جمال عبدالله مصري، محمد فتح الله جمعة، هاشم شاطر، علي جمعة علي بحر، صالح جمعة أحمد، عبدالسلام جمعة علي، عبدالله جمعة علي بحر، ووائل أحمد حسن. عشرة أسماء تحولت إلى عشرة أسر معلّقة على حبال الانتظار، عشرة مصائر تركها الوطن في الغربة.

هؤلاء لم يُعرف عنهم ذنب، ولم يُمكَّنوا من دفاع، ولم يسمعوا حتى كلمة طمأنة من وطنهم. عام كامل مرّ عليهم كأنه منفى لا نهاية له، بينما تُكتب البيانات لغيرهم. فأي معنى يبقى للدستور إن لم يُطبّق هنا؟ وأي قيمة تبقى للمواطنة إذا جُزئت على مقاس السياسة؟

في هذا المشهد القاسي، يسطع اسم الزميل العزيز د. علي أيوب، المحامي الذي حمل هذه القضية متطوعًا كما حمل غيرها من قضايا الحق العام. تقدم بطعن أمام القضاء الإداري ليُعيد للدستور روحه، وليؤكد أن امتناع الدولة عن حماية مواطنيها قرار سلبي مخالف للقانون والدستور. وقد قالت محكمة القضاء الإداري بوضوح: “إن امتناع السلطات عن أداء واجبها الدستوري يُعد مخالفة تستوجب إلغاء القرار السلبي ورفع آثاره.”

التاريخ يُذكرنا أن مصر لم تكن يومًا غريبة عن أبنائها في الخارج. محمد علي باشا أنشأ ديوان الأمور الإفرنجية ليحمي الرعايا. دستور ١٩٢٣ أقرّ المساواة أمام القانون. مؤتمر مونترو ١٩٣٧ أنهى الامتيازات الأجنبية ليؤكد سيادة المصريين وعدالتهم. وفي العصر الحديث، أجلت الدولة مئات الآلاف من أبنائها من العراق والكويت زمن حرب الخليج، وأعادت الآلاف من لبنان عام ٢٠٠٦. فلماذا إذن يغيب البيان عن عشرة من أبناء النوبة اليوم؟

ليست القضية عن شخص واحد اسمه ميدو أحمد عبدالقادر ولا عن عشرة رجال فقط، بل عن امتحان لمفهوم الدولة وصدق التزاماتها. فإذا رعت الدولة واحدًا وأهملت عشرة، فهي تُسقط مبدأ المساواة، وتحوّل العدالة إلى سلعة انتقائية. التضامن مع كل مصري في الخارج واجب لا يقبل التجزئة، والتضامن مع أهل النوبة واجب مضاعف، لأنه امتحان مباشر لضمير مصر أمام نفسها.

أختم بما بدأنا به، بكلمة مكرم عبيد: “الحرية لا تُجزّأ، والعدل لا يُقسم.” فإذا كتبت الدولة بيانًا لميدو، فلتكتب عشرةً لأبناء النوبة. فالعدل لا يقبل التجزئة، والوطن لا يفرّق بين أبنائه، ومن لا يحمي أبناءه في غربتهم يفقد شرعية الأبوة في بيته.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى