ملفات وتقارير

مصر بين مشهدين..حكومة تعبد الأرقام ودماء تسيل على القضبان

كان اليوم حارا والناس من فرط العرق لا تطيق لمس أجسادها، كلٌ سارح في همه ويراقب حقائبه بين الفنية والأخرى، يفكرون في غد مجهول وحاضر مُثقل بالأعباء والديون، القطار يسير بسرعة في صحراء خالية، رمال ملتهبة وصخور مدببة وهواء يشوبة رمال ناعمة تزكم الأنوف وتشوش الرؤية، هدوء تام لا تسمع في القطار إلا همسا، وبينما الكل غارق في سباته من أرق السفر ويٌمنّى نفسه بسلامة الوصول، إذ فجأة تخرج عجلات القطار من مجراها وينقلب بسرعة مدهشة على جانبيه، لا أدوات سلامة ولا خطة طارئة توقف نزيف الخسائر، بل رائحة الدماء تفوح في أرجاء المكان، والجميع من هول الصدمة كبلهم العجز يتسألون لماذا حدث هذا؟ أين الدولة؟ أين سلامة المواطنين؟ وبعد لحظات سالت أشرطة الأخبار بعناوين من قبيل ، قُتل كذا وكذا وأصيب كذا وكذا، وصرفت الحكومة لكل ضحية كذا وكذا وانتهى الأمر.

مشهد تراجيدي معتاد ليس من نسيج الخيال بل من قسوة واقع مؤلم يعيشة المصريون دوما على الأرصفة وقضبان السكك الحديد والمصالح الحكومية، تروي دماءهم الأرض أكثر مما يرويها مطر السماء لكثرة الحوادث على الطرقات والسكك الحديد وفي المستشفيات بسبب الإهمال الحكومي ومستنقع الفساد الذي بات المصريون يشربون منه كل يوم إلى أن تسممت حياتهم وتعطلت مصالحهم وانحرفت سلوكياتهم.

وعلى صعيد مشابه ترى آخرون يجلسون في الطرقات أمامهم أدوات بدائية من “شاكوش وأجنة ومرزبة” ينتظرون عملا ببضعة ملاليم لا يقيمون أواد محروم ولا يفتحون بيتا ولا يزوجون بنتا، الشمس فوق رؤوسهم تحرقهم من شدة حراراتها، والنفس من الداخل تغلي من شدة الاحتياج، ها هو هناك يجر عربة خشبيىة متهالكة لا تتحرك إلا بجهد مضاعف، وآخر بجواره يجمع القمامة والكراتين المستعملة وفوارغ مشروبات غازية، يعملون في ظروف قاسية في الشوارع بلا تأمين أو معاش تقاعدي يكفيهم ويغنيهم حرج السؤال.

مشاهد إنسانية معتادة عن حياة كثير من المصريين الذي يكافحون العيش ليبقوا على قيد الحياة، مشاهد مؤلمة تُكذب حكومة متواكلة تعبد الأرقام وتزين الاقتصاد بعناوين الجرائد الثقيلة والتحليلات الموجهة، أن الاقتصاد يتحرك للأمام والسيل النقدي في زيادة والدولار يتراجع، في حين أنها غارقة في ديون بلغت مليارات الدولارات وتعجز عن توفير الخدمات الأساسية للمواطن الغارق هو الآخر في مستنقع الفقر والمرض والدخل المعدوم.

ومن نماذج هذا الانفصام عن واقع المواطن المصري تصريحات وزير المالية أحمد كجوك أن وزارته تعمل على تخفيف الأعباء عن المواطنين والمستثمرين فى إطار رؤية متكاملة للنمو والتنمية، قائلا: أننا حققنا نتائج مالية جيدة خلال العام المالي الماضي، لصالح الناس والاقتصاد بشراكة قوية مع القطاع الخاص! ليبق السؤال: أين صدى تلك الأرقام في حياة المصريين؟ فالنجاح الاقتصادي ليس أرقاما جامدة بل حياة كريمة وخدمات متوفرة ورأسمال ينتج وأيدي عاملة تعمل بمهارة في بيئة صحية آمنة بلا خوف من الحاضر أو قلق من المستقبل.

الوزير صرح في مؤتمر صحفي لاستعراض نتائج الأداء المالى لعام ٢٠٢٤/ ٢٠٢٥ – إن الأمور تتحسن بقوة في المؤشرات الاقتصادية والمالية والاستثمارية، وقد انعكس ذلك في توجيه موارد إضافية لبعض الخدمات الأساسية التي تهم المواطنون، وجاءت تلك التصريحات كصدى فارغ لحادث قطار الاسكندرية مرسى مطروح، الذي راح ضحيته 3 أشخاص وأصيب أكثر من 50 شخصا، يصرح الوزير بتصريحات أفلاطونية ثم تكذبه النتائج على أرض الواقع أن مصر بلا حكومة حقيقية بل مجرد هيكل فارغ من أى قيمة إنتاجية أو خدمية.

لعبة الأرقام وسياسة الانفصام

تعتمد الحكومة المصرية على لعبة الأرقام التي باتت السياسة تتدخل في تعديلها قبل إعلانها بزعم الحفاظ على الأمن القومي، ولم تعد من مهام جهاز الإحصاء والتعبئة، لذلك تدني مستوى الشفافية في مصر، التي حلَّت في المركز 130 من بين 180 دولة على مؤشر منظمة الشفافية الدولية. وهذا العيب، في شقه المتعلق بتوفير الأرقام، يعود بالأساس إلى أمرين: الأول هو تعمد إخفاء الأرقام الحقيقية، إن تعلقت بمسائل من قبيل البطالة والتضخم والدين العام، والميزان التجاري، والإنفاق الحكومي في مجال الخدمات، لا سيما الإسكان والصحة والتعليم. وهذا التعمد يحدث إما بالسكوت وعدم الإفصاح عن الرقم الدقيق، أو استبدال أرقام أخرى جزافية به.

في كتابه كيف تكذب بالإحصاء/How to Lie with Statistics، يلفت داريل هوف الانتباه إلى الأخطاء البسيطة والجسيمة التي تقع فيها الدولة والتسليم لمقولة أن “الأرقام لا تكذب”، والاستسلام تمامًا للأساليب الإحصائية من أرقام ومعادلات ورسوم بيانية، لأنها قد تعطينا انطباعًا وتصورًا ورؤيةً غير واقعية عن الظواهر التي نتابعها وندرسها.

هنا يقول الكاتب “في عالم تغلب عليه ثقافة التفكير بالحقائق، تبدو اللغة السرية للإحصاءات جذابة جدًا على الرغم من توظيفها لخلق الإثارة والتشويش والتضخيم والالتباس. لا أحد يستطيع أن ينكر دور الوسائل والمصطلحات الإحصائية في تطويع الأحجام الهائلة من البيانات الاقتصادية والاجتماعية، لكن إن لم يترافق هذا مع وجود كُتّاب نبهاء وأمناء وقراء وأعين فإن النتيجة لن تكون أكثر من مجرد هراء”.

تحتاج مصر إلى منظومة عدالة اجتماعية في المقام الأول للحفاظ على أمنها القومي، فالكذب لا يحفظ دولة بل يفاقم الأزمات ويؤجل المواجهة مع الشعب، إضافة إلى نظام المحاسبة والمسؤولية لكل فاسد يقصر في مهام عمله، فحياة المواطنين أهم من الاقتصاد والأرقام والمنفصلة عن الواقع، بناء المواطن هو اللبنة الأولى في زرع الثقة بينه وبين الحكومة ومن ثم يتعزز انتماءه ويدافع عن أمن بلده بحب وتفان.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى