يوسف محمد يكتب: الظلم في السجون المصرية.. حين تتحول الزنازين إلى دولة داخل الدولة

مقدمة: مصر التي تُدار من خلف القضبان
في مصر، لم تعد السجون مجرد مؤسسات لتنفيذ العقوبة، بل أصبحت عالمًا موازيًا يعكس صورة الحكم نفسه.
حيثُ القهرُ هو القاعدة، والكرامة هي الاستثناء، والعدالة تُدار بالمزاج والمال.
منذ عقود، تتراكم قصص التعذيب، والرشاوى، والإهمال، حتى صارت السجون المصرية مرآة كاشفة للظلم الاجتماعي والسياسي في البلاد.
إمبراطورية السجون.. أرقام تكشف الواقع
وفق تقارير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وهيومن رايتس ووتش، ومركز النديم لتأهيل ضحايا التعذيب، فإن مصر اليوم تمتلك واحدة من أكبر شبكات السجون في الشرق الأوسط.
🔹 الأرقام حتى عام 2025:
- 78 سجنًا مركزيًا ورئيسيًا موزعة على محافظات الجمهورية.
- بالإضافة إلى 320 مقر احتجاز تابع للأمن الوطني ومديريات الأمن.
- بين عامي 2013 و2024، أنشأت السلطات 38 سجنًا جديدًا، من بينها مجمعات ضخمة مثل بدر، ووادي النطرون، والعاشر من رمضان.
- يُقدَّر عدد السجناء والمعتقلين في مصر بنحو 120 ألف سجين، منهم ما يقارب 65 إلى 70 ألف معتقل سياسي بحسب منظمات دولية مستقلة.
- يُحتجز نحو 20% منهم رهن الحبس الاحتياطي لسنوات دون محاكمة.
تقول العفو الدولية إن مصر تعيش حالة من “الطوارئ الدائمة داخل الزنازين”، حيث تُستخدم القوانين لتقنين الحبس لا لإنهائه.
ظلم بلا حدود.. معاناة السجناء خلف الأسوار
المشهد داخل السجون المصرية لا يحتاج إلى مبالغة، فالشهادات الحية من معتقلين سابقين ترسم صورة مأساوية:
- التعذيب الممنهج:
الصعق بالكهرباء، والضرب بالعصي، والتعليق من الأذرع، والحبس الانفرادي لأشهر.
وتؤكد الشبكة المصرية لحقوق الإنسان أن ما لا يقل عن 3000 حالة تعذيب سُجلت بين 2014 و2024. - الإهمال الطبي:
خلال العقد الأخير توفي أكثر من 1200 محتجز داخل أماكن الاحتجاز نتيجة الإهمال الطبي المتعمد أو الحرمان من العلاج، وفقًا لمركز الشهاب لحقوق الإنسان.
في سجون مثل العقرب وبدر 3، يُمنع الدواء والطعام الكافي عن المعتقلين كوسيلة للضغط والتنكيل. - الاكتظاظ وانعدام التهوية:
الزنزانة المخصصة لـ8 أشخاص تضم أحيانًا أكثر من 20 نزيلًا.
لا تهوية، ولا شمس، ولا فُرش للنوم.
تُسكب المياه في الممرات كعقاب جماعي، وتُطفأ الأنوار لأيام. - العزل التام:
يُحرم كثير من المعتقلين من الزيارة لأشهر أو سنوات، وتُمنع عنهم الرسائل أو المكالمات الهاتفية.
أحد المحامين وصف سجن بدر بأنه «نسخة رقمية من العقرب.. صمتٌ أبيض يشبه الموت البطيء».
الفساد في السجون.. رشاوى مقابل الحقوق
تقول شهادات موثقة من أسر السجناء إن المال أصبح اللغة الرسمية داخل السجون.
كل شيء له ثمن:
- زيارة الأهل تتطلب “مجاملة” للضابط المسؤول.
- إدخال الدواء أو الطعام يحتاج إلى “هدية رمزية”.
- الانتقال إلى زنزانة أفضل، أو الحصول على بطانية، أو حتى ماء نظيف… كله يُشترى بالنفوذ أو المال.
وفق تقرير سري أعده مركز النديم عام 2023، 85% من أسر المعتقلين اضطروا لدفع رشاوى أو “إكراميات” لتمكينهم من زيارة ذويهم أو إدخال متعلقات شخصية.
وقال أحد أهالي المعتقلين:
“الزيارة بقت تجارة، كل حاجة بثمن، والكرامة آخر سلعة في السوق.”
معاناة الأسر.. الألم الذي لا يُرى
وراء كل سجين، أسرة تعيش الحبس خارج الأسوار.
الزوجة التي تنتظر، والأم التي تطرق الأبواب بحثًا عن خبر، والأطفال الذين يكبرون على صور آبائهم في الذاكرة فقط.
🔹 أرقام ودلالات:
- تشير تقديرات حقوقية إلى أن هناك أكثر من 250 ألف مصري متأثرون مباشرة باعتقال قريب أو أحد أفراد الأسرة.
- في القاهرة وحدها، أُغلقت مئات البيوت بعد سجن عائلها الوحيد.
- كثير من الزوجات اضطررن للعمل لأول مرة لتغطية مصاريف الزيارات، التي قد تصل إلى 5 آلاف جنيه شهريًا في بعض السجون.
- بعض الأمهات يقطعن مئات الكيلومترات كل أسبوع لزيارة أبنائهن في سجون الصعيد أو الصحراء، ثم يُمنعن عند البوابة بحجة “الأوامر”.
أحد أهالي المعتقلين قال في رسالة علنية:
“كل زيارة هي سجن جديد، كل باب حديدي يُغلق، نُحبس معه نحن أيضًا.”
السجن كمنظومة فساد
ما يجري داخل السجون ليس مجرد سوء إدارة، بل نظام متكامل من الفساد المنظم.
- الضباط يستفيدون من الإكراميات والهدايا،
- وإدارة السجون تُغض الطرف عن الانتهاكات مقابل تقارير مزيفة عن “الانضباط”.
- بعض الضباط حولوا السجون إلى مصدر دخلٍ ثابت عبر بيع الامتيازات للنزلاء: طعام أفضل، ساعات تريض أطول، أو حتى رسائل من الأهل.
تقرير أصدرته هيومن رايتس ووتش عام 2024 وصف المنظومة بأنها:
“اقتصاد ظلٍّ أمني، يقوم على الإذلال والابتزاز المالي للسجناء وأسرهم.”
رمزية الظلم: حين تُصادر الكرامة باسم القانون
في مصر، لا يُسجن الإنسان بسبب جريمة محددة، بل أحيانًا بسبب فكرة أو كلمة أو موقف.
القانون يتحول إلى سلاح بيد السلطة، والسجون تتحول إلى معسكرات للسكوت الإجباري.
والمفارقة أن من يُفترض أنهم “يحرسون العدالة”، هم أول من يدوسونها تحت أقدامهم.
العدالة المفقودة والمستقبل المجهول
حين تتحدث الأمهات عن أبنائهن المختفين، لا يطلبن المستحيل، فقط أن يعرفن:
“هل هو حي أم مات؟ هل يأكل؟ هل ينام؟”
لكن الإجابة دائمًا صمت، وجدار، وباب حديدي لا يُفتح.
هذا الصمت هو أخطر أشكال الظلم، لأنه لا يُسمع، ولا يُوثق، لكنه يقتل في كل بيت بصمت بطيء.
ومادام النظام يُنكر وجود التعذيب، ويرى في المعتقلين “أعداءً للدولة”، فإن العدالة ستبقى بعيدة، والكرامة ستظل أسيرة في زنازين مكتظة، ينتشر فيها الفساد كما ينتشر الصدأ على الحديد.
خاتمة: الحرية لا تُشترى
الظلم في السجون المصرية ليس مجرد ملف حقوقي، بل قضية إنسانية وسياسية وأخلاقية.
فالدولة التي تبني السجون أسرع مما تبني المدارس، تزرع الخوف بدل الأمل.
وحين تصبح الرشوة لغة العدالة، يصبح الصمت جريمة، والمطالبة بالحق مغامرة.
لكنّ الحرية، مهما طال ليل القهر، تظل فكرة لا يمكن اعتقالها.
لأن في كل زنزانة مظلمة، هناك إنسان ما زال يؤمن أن الشمس ستدخل يومًا من ثقب الجدار.
يوسف محمد – كاتب وباحث في الشأن الحقوقي والسياسي