مقالات وآراء

إسلام الغمري يكتب : خالد علي حفني (هيثم المصري ) ابن سوهاج… الطبيب الشهيد

وكأني بالشهيد يدون

“جلست أكتب على ضوء مصباح خافت في خندق ضيق، بينما كان دويّ القصف يهز الجبال. مرّت قذيفة فوق رؤوسنا فأظلمت الدنيا لحظة ثم عادت لتشتعل. بجانبي كان أخي «أبو حمزة» ينزف، لكنه ابتسم وقال: بلّغ أهلي أني كنت أبتسم ساعة الشهادة. دوّنت كلماته بيدي المرتعشة، وأحسست أنني أكتبها لا بالحبر بل بالدم، لتبقى شاهدة على جيلٍ آمن أن الموت في سبيل الله حياة.”

هكذا نتصور الشهيد الدكتور خالد علي حفني –المعروف في ساحة الجهاد باسم هيثم المصري– وهو يسطر يومياته التي نشرتها مجلة المرابطون في بيشاور تحت عنوان: مذكرات طبيب استشهد في بغمان. يوميات حيّة، كتبت بمداد القلم والدم معًا، تضع القارئ أمام مشاهد البطولة والإيمان وكأنه يعيشها بنفسه.

من سوهاج إلى أسيوط… بداية المسيرة

وُلد الشهيد خالد علي حفني عام 1961 في محافظة سوهاج بصعيد مصر، في بيت أصيل عرف التدين والالتزام. التحق بكلية الطب في جامعة أسيوط، وهناك بزغ نجمه مبكرًا، جامعًا بين التفوق العلمي والنشاط الدعوي، حتى أصبح من أبرز شباب الجماعة الإسلامية في الجامعة.

الاعتقال بسبب انتمائه للجماعة الإسلامية

في حملة سبتمبر 1981، التي شنها نظام السادات على الإسلاميين، كان خالد علي حفني في الصفوف الأمامية، فاعتُقل مع الآلاف من أبناء الحركة الإسلامية، وقضى سبع سنوات كاملة في السجن.
لكن السجن لم يثنه عن طريقه، بل صقل شخصيته وزاده ثباتًا. هناك أكمل دراسته الطبية، وخرج بعد سنوات الاعتقال طبيبًا بارعًا، ورسخ انتماؤه للجماعة الإسلامية أكثر من أي وقت مضى، فصار يُنظر إليه كأحد كبار قادتها.

من الدعوة إلى الجهاد

بعد خروجه من السجن، وفي ظل الملاحقات الأمنية، غادر مصر إلى السودان، ثم إلى باكستان، ومنها إلى أفغانستان مطلع التسعينيات. هناك اتخذ اسمًا حركيًا هو “هيثم المصري”، خشية استهدافه وأسرته من النظام. بهذا الاسم عُرف بين المجاهدين، وبه خُلدت سيرته.

في معسكر الخلافة بخَلدن – خوست

التحق الشهيد بـ معسكر الخلافة في منطقة خَلدن التابعة لولاية خوست، حيث ترك أثرًا خالدًا في نفوس المجاهدين. لم يكن مجرد متدرب، بل كان قائدًا ومربيًا، يغرس في القلوب الثبات والصبر.

وقد جاء جهاد تلك الحقبة في إطار مواجهة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، في زمنٍ كانت فيه الحرب الباردة بين القوتين العظميين تُلقي بظلالها على العالم كله. يومها، تقاطعت مصالح غالبية الدول العربية والإسلامية لدعم المجاهدين الأفغان، باعتبار أن معركتهم لم تكن محلية فحسب، بل جزءًا من صراع عالمي أوسع ضد النفوذ السوفييتي.

وكانت معه ثُلّة مباركة من رفاق الدرب، ممن ارتقت أرواحهم في جبال أفغانستان وبلاد أخرى، وبذلوا حياتهم في سبيل الله. لقد تركوا بصمات لا تُمحى في الذاكرة، وسيظل عطاؤهم شاهدًا على مرحلة تاريخية فارقة في مسيرة الجماعة الإسلامية.

طبيب في الخنادق

رغم مكانته القيادية، عاد إلى مهنته التي أحبها: الطب. أنشأ عيادة ميدانية في منطقة بغمان لخدمة المجاهدين، وظل يسهر على علاج الجرحى والمصابين. وحين دُمّرت العيادة بالقصف، واصل عمله في الخنادق تحت القصف والرصاص. كان يقول لإخوانه:
“كيف أعود وأترك المجاهدين بلا طبيب؟”

هكذا عاش الشهيد: قائدًا متواضعًا، طبيبًا في الخطوط الأمامية، يختار أصعب المواقع طلبًا للشهادة.

وكأني بالشهيد يدون…

“اليوم اشتد القصف علينا من كل جانب، الجبل يهتز تحت أقدامنا، والغبار يخنق الأنفاس. رأيت إخواني يتسابقون إلى مواقعهم بوجه يضيء ثباتًا، ومن بينهم من علم أنه لن يعود. يا لها من لحظات تعجز الكلمات عن حملها، لكنني أكتبها لتبقى شهادة للأمة.”

ليلة الاستشهاد

في أواخر مايو/أيار 1990، وبينما كان يبيت مع رفيقيه أبي روضة والليث في بغمان، بدّل لأول مرة موضع نومه. وقبيل الفجر، سقطت قذيفة عند باب الغرفة، فأصابته شظاياها في صدره وجانبه الأيمن. ظل يلهج بالشهادة حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها. رحل مبتسم الوجه، مطمئن القلب، وكأن ابتسامته الأخيرة كانت مفتاح الجنة.

هيئته وأثره

كان الشهيد هادئًا إلى أبعد الحدود، وابتسامة لا تغادره، يزينها مسحة حزن رقيقة. بهي الطلعة، عذب الحديث، يدخل القلوب بلا استئذان. ورغم مكانته كأحد كبار قادة الجماعة الإسلامية، أبى إلا أن يكون في الصفوف الأولى، غير هيّاب ولا وجل، يبتغي الموت في مظانه باحثًا عن الشهادة.

من بغمان إلى غزة… وحدة الطريق

وإذا كان الشهيد الدكتور خالد علي حفني قد اختار أن يكون طبيبًا في الخنادق بين المجاهدين، فإننا اليوم نرى في غزة أطباء يواصلون المسيرة نفسها. يقفون في خطوط النار، يعالجون الجرحى تحت القصف والحصار، ويُستهدفون عمدًا من الاحتلال لأن دورهم في الصمود لا يقل عن دور المجاهدين بسلاحهم.

ومن أبرز هؤلاء الدكتور حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان. اعتقلته قوات الاحتلال في ديسمبر/كانون الأول الماضي بعد أن فقد ابنه الأكبر تحت القصف، فظل رمزًا للطبيب المقاوم. تُروى عنه مشاهد تقشعر لها الأبدان: أُتي به زحفًا إلى محاميته، معصوب العينين، مكبل اليدين، لا يُسمح له حتى برفع رأسه، وزيارته لا تتجاوز نصف ساعة من خلف زجاج مسجّل بالصوت والصورة. محتجز في أقسام تحت الأرض، لا يرى الشمس، ولا يعرف شيئًا عما يجري في الخارج؛ حتى إنه لم يعلم باندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل إلا من أصوات الصواريخ التي سمعها وهو خلف القضبان.

خسر أربعين كيلوغرامًا من وزنه، إذ لا يتناول سوى ملاعق قليلة من الأرز والخبز والحمص، يجمَعها على مدار اليوم ليوهم نفسه أنه تناول وجبة كاملة. يُسمح له بالاستحمام لدقيقة واحدة مرتين في الأسبوع بلا صابون. وفي لحظةٍ من الانكسار الإنساني، قال لمحاميته: “هل ما زال أحد يذكرني؟”

إنها ذات الرسالة التي تركها الشهيد هيثم المصري: أن الطبيب في الميدان هو شهيد مؤجل، وأن طريق التضحية لا يتغير؛ من خنادق بغمان إلى مستشفيات غزة، ومن دماء الأطباء إلى دماء المجاهدين، تبقى المعركة واحدة ورسالتها واحدة: أن الطب جهاد، وأن إنقاذ الأرواح معركة من معارك الأمة.

شهداء الجماعة الإسلامية في المهاجر

لم يكن خالد علي حفني وحده، بل سبقه ولحقه ثلة من أبناء الجماعة الإسلامية الذين ارتقت أرواحهم في ميادين بعيدة، من جبال أفغانستان إلى البوسنة والهرسك وكوسوفو والشيشان وبلاد الشام.
لقد تركوا قبورًا شاهدة على تلك المرحلة، وبذلوا دماءهم رخيصة في سبيل الله، فصاروا علامات مضيئة في سجل الشهادة والفداء. إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ويستحق كل واحد منهم أن تُكتب سيرته في مؤلفات مستقلة تحفظ عطاؤه وتضحياته.

وكأني بالشهيد يدوّن… (الوصية)

“إن مضيتُ اليوم فلستُ بخاسر، فقد بعتُ الدنيا بالآخرة. أبلغوا إخواني أن يثبتوا على الطريق، وأهلي أن لا يحزنوا، وأمتي أن النصر وعد الله لعباده الصادقين. أبشروا يا أهل غزة وفلسطين بنصر الله القريب وفرجه العظيم، فأرواحنا تحلق في رحاب المسجد الأقصى المبارك، والذي نراه حرًّا رأي العين. فالموت في

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى