مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: ورقة من مذكّراتي .. 20 عامًا على أول انتخابات رئاسية… تفصيل دستور على مقاس الوريث2~7

لكل أمة لحظة ولادة سياسية، ولحظة تجديد دمائها بالديمقراطية، إلا أن انتخابات مصر عام 2005 لم تكن ولادة طبيعية، بل كانت عملية قيصرية خشنة أُجريت على جسد الوطن بيد سلطة لا تريد أن تُنجب وطنًا حرًا، بل تريد أن تُنجب ابنها وحده.

إن التزوير في أي انتخابات لا يبدأ عند الصندوق، بل ينتهي عنده؛ أما بدايته الحقيقية فدائمًا عند لحظة كتابة النصوص الدستورية والقانونية التي تُرسم كأقفاص محكمة على رقاب الناخبين، وهو ما عشته وشهدته بأم عيني.

لا أنسى غلاف مجلة الأهرام الاقتصادي حين كتب مبارك بعبارات مقتضبة: “التفكير في تعديل الدستور خيانة”.

كانت كلمات جازمة قاطعة، لكنها لم تكن سوى سحابة دخان، إذ لم تمر أسابيع قليلة حتى خرج الرجل نفسه ليعلن تعديل المادة 76، في تناقض فجّ بين ما يقول وما يفعل.

كان التعديل في ظاهره نقلة من الاستفتاء إلى الانتخابات، لكنه في جوهره لم يكن أكثر من التفافٍ جديدٍ على أحلام المصريين، وتحصينٍ لمستقبلٍ خُطّ لابنه جمال مبارك، تحت وطأة ضغوطٍ عائلية وداخلية من قلب السلطة نفسها.

لم أكن قارئًا من بعيد، ولا متفرجًا خلف شاشة، بل كنت حاضرًا داخل قاعة البرلمان، نائبًا وزعيمًا للمعارضة، أسمع وأرى تلك المهزلة، وأصرخ في وجهها.

في القاعة، لم يكن النقاش حول دستور أمة، بل كان حول بدلة تُفصّل بعناية على جسد واحد.

لم يكن الحديث عن الشعب، بل عن الرئيس ووريثه، وعن مقعد يريدون له أن يبقى حكرًا على العائلة.

يومها، حاولتُ أن أقول إن الدستور لا يُفصّل كما تُفصّل الثياب، وأن الأمة ليست جسدًا صغيرًا يلبس ما يخاطه له، لكن صوتي ضاع بين تصفيق المصفقين، وصخب الموالين الذين تفرغوا لتأدية واجب الطاعة.

كانت أسوأ عملية تفصيل دستوري شهدتها مصر -حتي تاريخه- فالمادة 76 كتبت على مقاس مبارك الأب، لكنها كانت مرآةً مفتوحة على وجه الابن الذي ينتظر دوره، في مشروع توريث غير معلن رسميا،لكنه حاضر فعليا و مغلف بشعارا ديمقراطيا.وهو الانتخابات التعدديه.

في إحدى الجلسات المخصصة لمناقشة المادة 76، وقفت متعجا من غفلة مشروعي النظام ، سألت سؤالًا بدا بسيطًا لكنه أحدث دوياً:

“ماذا لو بعد إغلاق باب الترشح، وقبل إجراء الانتخابات، توفي أحد المرشحين؟

هل تُستكمل الانتخابات بين من تبقى ؟”

كان سؤالي بمثابة الصاعقة؛ إذ بادر المرحوم فتحي سرور برفع الجلسة فورًا، ودعا قيادات النظام للاجتماع في مكتبه.

تواصلوا مباشرة مع مبارك، ثم عادوا بتعديل للنص المقدم منهم، يسمح بفتح باب الترشح مجددًا في حالة وفاة أي مرشح أثناء العملية الانتخابية.

لم يكن حرصهم على العدالة أو تكافؤ الفرص، بل خشية أن يتوفى مبارك نفسه خلال العملية الانتخابية، فيغيب عن القائمة، ولا يجد النظام وسيلة لإدخال مرشح آخر يمثل السلطة.

لم يكن التعديل للمادة 76 خطوة نحو الحرية، بل كان خطوة إلى الخلف، مسمارًا جديدًا في نعش الديمقراطية الوليدة، قيدًا على عنق مصر، جعل الانتخابات القادمة مجرد مسرحية بديكور دستوري مزيف.

هكذا بدأت حكاية أول انتخابات رئاسية في تاريخ مصر، لا من الصندوق، بل من قاعة البرلمان حيث صيغ النص على مقاس الرئيس.

منذ تلك اللحظة، كان الطريق مرسومًا: مشهد محسوم ونتيجة معروفة، حتى قبل أن يفتح الصندوق.

في ذلك اليوم، شعرت أن مصر كلها لم تدخل تجربة الديمقراطية، بل دخلت نفقًا مظلمًا باسمها، وصارت الديمقراطية كلمة خاوية، ودستورها نصًا مسمومًا.

ومع ذلك، اخترنا أن نخوض التجربة، رغم علمنا أنها مغشوشة، لأن الحق لا يكتمل إلا إذا وُجد من يشهد على باطل السلطة، ويضع أمام التاريخ دليلًا حيًّا على الغش والتزوير.

لم أكن أواجه فقط مبارك الأب، بل كنت أواجه نصًا دستوريًا مشوّهًا، كتبه الاستبداد بمداد التوريث، وجعل منه بوابةً زائفة إلى انتخاباتٍ شكلية.

في كل لحظة من تلك الجلسات، كنت أعلم أننا نكتب مستقبلًا سيئًا للأمة، وأننا لا ندخل زمن الديمقراطية بل نخرج منها، ومع ذلك رفعت صوتي في وجه التيار، لأن السكوت خيانة، ولأن المعارضة شهادة.

وها هو التاريخ يشهد: رغم كل التفصيل والتمويه، خرجت الحقيقة من بين الركام، وأثبتت التجربة أنني حللت ثانيًا بين عشرة مرشحين في أول انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ مصر.

لم يكن ذلك تفصيلًا في النتيجة، بل كان تفصيلًا في الواقع؛ إذ صار حزب وليد، عمره شهور، زعامة للمعارضة، واحتل موقعًا لم يستطع النظام أن يخفيه مهما زيف الأرقام.

لأول مرة رأى الشعب مشهدًا مختلفًا، سمع صوتًا غير الصوت الواحد، وأدرك أن هناك بديلًا حتى وإن حُوصر وقُمع.

لم تكن المعركة معركة صناديق، بل معركة وعي؛ وعي بأن التزوير يبدأ في النصوص، وبأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع من بين أسطر القوانين المفصّلة على مقاس السلطة.

هذه الورقة الثانية ليست مجرد فصل في تاريخ تعديلٍ دستوري، بل هي شهادة على أن الديمقراطية في مصر وُلدت مشوهة، تحت مقصّ الخياط السياسي الذي لا يرى في الشعب سوى جسدٍ صغيرٍ لبدلةٍ أكبر من مقاسه.

واليوم، بعد عشرين عامًا، أعود لأكتب لا لأستعيد مرارة الماضي، بل لأضع بين أيدي الأجيال الجديدة درسًا بليغًا: أن من يبدأ بتفصيل الدستور على مقاسه، لن يترك الانتخابات إلا على مقاسه أيضًا.

هذه الورقة الثانية إذن هي مرآة لبداية زائفة، وشهادة أن الحرية لا تبدأ من النصوص المزيفة، بل من الشجاعة في فضحها والوقوف في وجهها.

هذه الورقه من مذكراتي

ليست سوى محطة في سباعية سبتمبر الذي لا ينتهي.

و غدًا، في الورقة الثالثة، سأروي قصة : أوراق ترشيح مبارك التي لم تُقدَّم،للان. وكيف سُلب مني رمز الهلال ، وكيف انقلب ترتيب المرشحين، لتكتمل صورة التزوير منذ النص وحتى الصندوق.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى