
أكتب هذه الورقة الثالثة من سباعية سبتمبر الذي لا ينتهي، وفي قلبي حكاية تشبه الأسطورة: حكاية أوراق ترشيح مبارك التي لم تُقدَّم يومًا، ورمزٍ سُلب من يدي، وترتيبٍ انقلب رأسًا على عقب. قصة أول انتخابات رئاسية في تاريخ مصر، لم تبدأ من صندوق الاقتراع، بل من لحظة فتح باب لجنة الانتخابات صباح 29 يوليو 2005.
قبل هذا اليوم بأيام، حيكتُ خديعة صغيرة لكنها مشروعة. سرّبت عبر الهواتف — التي كنت أعلم أنها مراقَبة — أنني سأكون آخر المتقدمين، في آخر دقيقة من آخر يوم، حتى يظن الجميع أن اسمي سيكون في ذيل البطاقة، بينما كنت قد عقدت العزم أن أكون أول من يطرق الباب.
أردت أن أتركهم في غفلة حتى اللحظة الأخيرة، وأن أفتح أنا أول صفحة في دفتر الانتخابات. كانوا ينتظرونني آخر الداخلين، لكنني كنت بالفعل أول الواقفين أمام الباب المغلق.
في فجر التاسع والعشرين من يوليو، اصطحبتُ زملائي من حزب الغد — وائل نوار وأيمن بركات وذهبنا إلى المقر في مصر الجديدة. وقفنا أمام الباب قبل السابعة صباحًا، فيما كانت دهشة الحراس لا تُخفى.
بدأ الضباط يهرولون في اتصالات محمومة لإبلاغ قياداتهم بالمفاجأة: أيمن نور ينتظر أمام باب اللجنة قبل فتحها بساعات. كانت ملامح الارتباك واضحة، كأنهم فوجئوا أن هناك من يسبق الرئيس.
حرر أيمن بركات محضرًا رسميًا برقم 16 أحوال مصر الجديدة لإثبات وجودنا منذ السابعة صباحًا. كنتُ واقفًا كمن يحرس الحلم، لا أتحرك، ولا أرفع عيني عن الباب الحديدي.
عند الثامنة، حضر المستشار ممدوح مرعي، رئيس اللجنة، يحمل مفتاح المقر. دخلت خلفه كظله، ومعه موظفو اللجنة، وفي يدي ملف الترشيح، كأنني أحمل وصية جيل كامل.
جلس مرعي على مكتبه، وقال لي: والدك كان صديقًا لي، تعرفت عليه أثناء عملي في محكمة طلخا. فقلت له: أحب أن أسمع منك هذا تفصيلًا، لكن بعد تقديم أوراقي وإثبات حقي.
فتح مرعي سجل الترشيحات. التفت إليّ وقال بابتسامة باهتة: “اجلس قليلًا، أو نحتسي قهوة.” أجبته بحزم: “بعد أن أُسلّم أوراقي، وأحصل على حقي موثقًا.”
أثبت اسمي في السطر الأول من الصفحة الأولى من السجل، وفقًا للمادة 14 من قانون الانتخابات الرئاسية رقم 174 لسنة 2005. كتب بخطه: الرقم (1).
سألني عن الرمز الذي أختاره، فقلت بلا تردد: الهلال. دوّنه بجوار اسمي، كما نصت المادة 32 من قرار اللجنة.
وقّع مرعي بخطه، وختم الإيصال بخاتم النسر. لحظتها شعرت أنني لا أحمل إيصالًا، بل أحمل شهادة ميلاد لأول انتخابات رئاسية تعددية.
خرجت إلى الصحفيين والإعلاميين المتجمعين أمام المقر. أعلنت أنني أول المرشحين، برقم (1)، ورمز الهلال. لم تمض دقائق حتى بثت وكالة أنباء الشرق الأوسط برقية عاجلة برقم 86 تؤكد ذلك.
كان انتصارًا رمزيًا، لكنه كان كافيًا ليصيب النظام بالذعر. ففي مساء اليوم نفسه، بثت الوكالة برقية أخرى، مغايرة تمامًا للأولى، برقم 186، قلبت الحقيقة وقالت: الرئيس مبارك هو المرشح الأول، ورمزه الهلال!
هرعت عائدًا إلى اللجنة، وأريتهم الإيصال بخط وتوقيع رئيسها. ابتسم مرعي ابتسامة العارف وقال: “هذا كلام صحف… معك ما يثبت حقك، والله معك.”
بعد أيام، نشرت اللجنة القائمة النهائية في الصحف. رأيت اسمي رقم (٢)، ورمزي هو النخلة، بينما أصبح مبارك الأول، ورمزه الهلال. لم يحضر، لم يقدّم، بنفسه أو عبر وكيله محمد الدكروري، لكنه صار الأول. وكأن الغياب حضور، والحضور غياب.
تقدمت بطعن رسمي، أرفقت به الإيصال الأصلي بخط مرعي. في البداية، همس بعض أعضاء اللجنة أن الطعن وجيه، وأن الحق سيعود لأصحابه. لكن القرار كان مكتوبًا سلفًا.
رُفض الطعن، وجاءني مرعي يعتذر بلسانٍ بارد: “كنتُ معك، لكن اللجنة ليست أنا وحدي. القرار بيد الأغلبية.”
سألت الجميع: متى وأين قدم مبارك أوراقه؟ لم يره أحد، لم يلتقِ به أحد، ولا بوكيله. ومع ذلك، صار اسمه الأول في القائمة، والرمز الذي اخترته صار في يده.
لم تكن المسألة صراعًا على رقم أو رمز، بل كانت اختبارًا لمعنى القانون نفسه. فإذا كان القانون يُزوَّر في أول إجراء، فما قيمة كل ما يليه؟
كان الهلال مجرد رمز انتخابي، لكنه صار شاهدًا على أن السلطة لا تحتمل حتى قنديلًا صغيرًا يضيء في يد معارض.
لم تكن هذه الواقعة مجرد تفصيلة؛ كانت الفضيحة الأولى العلنية التي أثبتت أن الانتخابات مفصلة حتى قبل أن تبدأ.
كنت أعلم أنني سأخسر الرمز والرقم، لكنني تمسكت بما هو أثمن: أن يرى الناس مشهدًا صادقًا، ولو للحظة، أن يعرفوا أن النظام سرق حتى ترتيب الأسماء.
لم يكن الهلال وحده ما سُلب. سُلبت هيبة النصوص، وسُلبت أول لحظة أمل أن تكون البداية صادقة.
ومع ذلك، بقيت الحقيقة التي لم يستطع أحد محوها: أنني حللت ثانيًا بين عشرة مرشحين، وأن حزب_الغد، الذي لم يتجاوز عمره شهورًا، صار زعامة معارضة في وجه دولة كاملة.
دخلت لجنة الانتخابات يومها أحمل حلمًا، وخرجت منها أحمل درسًا: أن من يزوّر البداية لا يمكن أن ينصف النهاية.
واليوم، بعد عشرين عامًا، أكتب لأقول: إن أوراق ترشيح مبارك لم تُقدَّم للآن، وإن ما حدث يومها أكبر من تزوير رمز أو ترتيب. كان تزويرًا للذاكرة، واعتداءً على معنى الحقيقة.
كانت الحيلة التي بدأت بالهاتف، وانتهت بالرمز المسلوب، مرآة كاملة للعبة: سلطة تتصور أنها قادرة على تزوير حتى الساعة التي يُفتح فيها الباب.
هذه الورقة الثالثة تُمهّد لما بعدها. ففي الورقة الرابعة، سأترك القاعة والرموز، وأركب قطار الأمل، لأروي كيف التقيت بالناس في الشوارع والميادين، وكيف ارتبك النظام من مشهد الحشود.
هناك سأكتب عن الدعاية الانتخابية، ومؤتمرات المحافظات، وعن المنصة التي هاجموها في المحلة، وعن الميدان الذي شهد الحلم في التحرير، لتكتمل فصول حكاية أول انتخابات رئاسية في تاريخ مصر.