مقالات وآراء

حمدين صباحي يكتب: حقائق الطوفان.. تحرير فلسطين في الإمكان

سنتان من الطوفان ولم تضع الحرب أوزارها، العدوان مسعور ومستعر، والمقاومة صامدة وباقية.

وتحت النار يكبر السؤال عن النتيجة : نصر أم هزيمة؟

تتكاثر محاولات الإجابة، والإجابة بذاتها عامل في تكوين النتيجة، وسلاح في المعركة يصنع النصر أو يفرض الهزيمة.

طوفان الأقصى على أهميته وعمق آثاره هو معركة في حرب، والحرب هي جبهة اشتعال القتال ضمن صراع ممتد تاريخي حضاري مركَّب متعدِّد الجبهات بين الأمة وعدوها الصهيوني الاستعماري منذ ما قبل سنة 1948 إلى الآن وثمة مزيد.

نتيجة أية معركة تبقى نسبية مرحلية بانتظار آخر معارك الحرب، ولا قياس لنتيجة الصراع أدق من القدرة على تحقيق الهدف.

الهدف العربي واضح: استعادة حق الأمة المغتصب بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.

وهدف الكيان واضح: تحقيق الوهم الصهيوني بإقامة إسرائيل الكبرى من النهر إلى النهر.

لهذا كله فإننا نعي بوضوح قاطع أنه لا نصر حاسمًا للأمة العربية قبل تحرير فلسطين. ولا نصر حاسمًا للكيان الغاصب قبل إقامة «إسرائيل الكبرى».

سيمتد الصراع بين الهدفين النقيضين: «استعادة الحق» مقابل «تجسيد الوهم»، سيأخذ الصراع مداه، وتتعدد جبهاته، وتتجدد معاركه، كما يذكّرنا التاريخ بجولات الصراع السابقة في الحروب الصليبية، حيث تناوبت جولات الحرب والهدنة، وتراوحت الخسائر والمكاسب، حتى تحقق النصر الحاسم لمنتصر ظاهر غالب، على حساب مهزوم ظاهر مغلوب. لكن الغرب لم ينسَ الهزيمة، وعاد ليجدِّد صراع العصور الوسطى بأدوات جديدة وشعارات جديدة، لن يحسمها الدعم المفتوح للعدو، ولا خيانات والي عكا وأحفاده.

ولهذا كله لا نستطيع الآن تقديم إجابة نهائية للسؤال: نصر أم هزيمة؟ لكن يمكننا الحديث عن مكاسب وخسائر.. عن ملامح وبشائر، فلا يصح الحديث الآن عن هزيمة، مهما بلغت خسائر العتاد والبشر، والزرع والحجر، فما دام الصراع مستمرًّا، والمقاومة صامدة، فإن أي حديث عن الهزيمة هو خذلان واصطفاف مع العدو، كذلك فإن الحديث عن النصر هو قفز على حقائق لا تزال قيد التكوّن.

صحيح أن أمنيات النصر إشارة من إشارات الانتماء والأمل، لكنها لا تكفي للحديث عن انتصار نهائي، أما حديث البعض عن هزيمة المقاومة، فهو إشارة ودليل يثبت انهزام الناطقين به أيًّا كانت مبرراتهم.

النظرة البصيرة للمعركة الدائرة، تضعها في مكانة متميزة ومتفردة في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، وأقول «العربي» على سبيل المجاز وتيمُّنًا بتمثيل الجزء لشرف المقاومة العربية والروح القومية التي يمثلها الفلسطينيون والمقاومون وخصوصًا أهل غزة، شعبًا ومسلحين، فالكل مقاومة: المدني بصموده الذي أيقظ ضمير العالم الحر، والمسلح بعزة انتمائه وعقيدته الفاصلة: النصر أو الشهادة.

لماذا أقول إن هذه الجولة في الصراع متفردة، ومتميزة عن كل الجولات السابقة منذ عام 1936؟

لأنها جولة بدأت فلسطينية خالصة واستمرت بمساندة فاعلة من قوى المقاومة الشعبية العربية، لم يشارك فيها النظام الرسمي العربي برغيف أو رصاصة، جولة بلا جيوش دول، ولا إعلام أنظمة، سوى دعم ايران ثم مشاركتها.

كما أنها جولة في العمق الحي للعدو، وليست حربًا في الغلاف على جبهات صحراوية نائية، جولة موجعة ومثيرة للقلق الوجودي عند الحالمين بـ«أرض اللبن والعسل»، كما روجت وكالات الهجرة اليهودية، ومحرفي التوراة للانقلاب على تعاليم الرب، مقابل دولة عبرية تتبني القتل كسياسة سلام، وتسمي موضع الجلجثة «واحة الديمقراطية».

عرف الصراع العربي – الصهيوني جولات كثيرة، من الخطأ، ومن الخطل، أن ننزعها عن سياقها التاريخي وطبيعة أهدافها. يسري هذا على طوفان الاقصى كما يسري على ما سبقه، وما سيلحقه، من جولات، إذ انكسرت الأمة في جولات، أكثرها وجعًا نكبة 1948 ونكسة 1967، وانتصرت في جولات أعزها فخرًا دحر العدوان الثلاثي عام 1956، والعبور العظيم عام 1973، وصمود بيروت وتحرير لبنان من الصهاينة في أعوام 1982 و 2000 و 2006. ولا ننسى أن كل مكسب أو خسارة في هذه الجولات المتتابعة، ظل رقمًا في معادلة أكبر وأشمل، لم يكن حاسمًا ولا فاصلًا في الصراع، بل نتيجة نسبية ومرحلية، لها إسهامها بالسلب والإيجاب في تحقيق الهدف النهائي، الجولة الرابحة تقربنا خطوة على طريق تحرير فلسطين، والجولة الخاسرة تؤخرنا عن الوصول.

من هنا يولد السؤال المستحق: في أي طرف من المعادلة نضع طوفان الأقصى؟

هل كان جولة تقدم على طريق التحرير؟

أم انتكاسة تعطيل وتأخير؟

على الرغم من أن الحصاد الفعلي لطوفان الأقصى يحتاج إلى وقت أطول لكي تظهر قيمته، وعلى الرغم من صعوبة تقييم نتائج معركة لم يخبُ أوارها بعد، فإن كل مبصر يستطيع أن يرى بوضوح خمس علامات فارقة تقربنا من النصر على طريق تحرير فلسطين كل علامة منها تمثل حقيقة راسخة تمكن طوفان الأقصى من إنشائها أو تأكيدها.

والفضل يعود إلى التضحيات الفائقة التي قدمها الشعب والمقاومة ثمنًا غاليًا لتقريب يوم النصر المستحق.

شهداؤنا من قادتنا العظماء إلى أطفالنا الأبرياء ليسوا ضحايا بل هم أبطال تحرير دفعوا بسخاء ثمن التصدي الجسور للقتل الممنهج وأساليب الإبادة والتجويع ومحو المدن وتبوير الأرض وتدمير البنى التحتية ومقومات بقاء الأحياء من دون أن يرفعوا راية بيضاء.

امتلكوا فوق البصر بصيرة ترى المآلات، وتوقن أن الاحتلال إلى زوال مهما تجبر، وتتحلى بحكمة التاريخ كما يصوغها محمود درويش في ‹لماذا تركت الحصان وحيدًا› بلسان الأب الفلسطيني يخاطب ابنه الخائف في رحلة اللجوء الأول في نكبة 1948:

«يا ابني تذكر غدًا

وتذكر قلاعًا صليبيةً قضمتها حشائش نيسان بعد رحيل الجنود».

من هذا المدخل الموضوعي الهادئ عن «المعركة كخطوة» و«الصراع كطريق» والتسلح بحكمة التاريخ نستطيع أن نرى الحقائق/العلامات الخمس المضيئة لطوفان الأقصى، كجولة إيجابية وخطوة متقدمة على طريق التحرير.

1 – الزلزلة

في نهار السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023 سجل التاريخ زلزالًا فلسطينيًّا ضرب الأساس ورجّ البنيان في الكيان الصهيوني، لم يهدم البيوت، لكنه هدم النفوس المتغطرسة، وسقاها شراب الخوف والقلق، وخلخل صفائح الأرض بفوالق عميقة غير قابلة للالتئام في أساس الكيان الهش الذي باع الأوهام لمغامري الشتات بأنه يملك جيشًا لا يقهر، وأمنًا لا يمس، وسيطرة لا تزول، لكن اقتحام المستوطنات واقتياد الأسرى واختراق القبة الحديدية وعبور الحواجز الأمنية، نزل كالصاعقة على الواهمين، انهار العقد الذي رعاه الجيش الصهيوني وشهد عليه ذئاب الاستيطان، وصار كل صهيوني «شاليط محتمل»، وتحول اسم «السنوار» إلى مصدر رعب في قلب كل صهيوني، الذراع الطولى فشلت في مواجهة الموتوسيكلات والطائرات الشراعية، ولم تستطع الميركافا أن تحمي بيت العنكبوت.

في السابع من أكتوبر تم فسخ عقد الأمان، لأن الجولة العسكرية هذه المرة لم تكن خبرًا على شاشة، أو ورقة استدعاء للاحتياط، بل فزع مقيم ذاقه الصهاينة داخل بيوتهم قبل أن يعلم بها قتلة «الكابينيت» وإعلام الأقمار الصناعية، وبعد الانقضاض المباغت بالشراعيات وسيارات الدفع الرباعي، انهمرت الصواريخ التي أصابت الكثير من المدن والمستوطنات داخل فلسطين المحتلة، وتعلم المغرورون هلع اللجوء إلى المخابئ، وفزع التدافع، والرعب النفسي من صفارات الإنذار.

وتعمقت الزلزلة بموجاتها الارتدادية، جاء المدد من خارج الأنظمة العربية الرسمية، عبر أبطال حزب الله وشجعان اليمن ثم صواريخ إيران التي دكت المنشآت العسكرية والاقتصادية وقلب المدن التي صدقت أنها معصومة من القصف والهلع، ذاق المستوطن للمرة الأولى مشاعر هدم بيته وقتل أهله، ونزوحه لمراكز إيواء، وقضاء الليالي في الملاجئ مذعورًا.

هذه الزلزلة ليست مرحلة مرت بل شعور مقيم، تغيير جوهري سيكون له ما بعده، وما ارتفاع معدلات الهجرة العكسية والخروج من الكيان بلا عودة وارتفاع الأصوات التي ترفض التجنيد وتتمرد على الأوامر لأن الحرب لم تعد نزهة أو قتلًا من طرف واحد إلا أولها ولن يكون آخرها أو أفدحها.

2 – انقلاب السحر على الساحر

تغذت الحركة الصهيونية على صورة الضحية، وابتزت العالم كله بسردية المحرقة والاضطهاد والمعاناة، وربحت الصهيونية المليارات وقبلها وأهمها التعاطف المدعوم إعلاميًّا وعسكريًّا من الغرب قادة ومواطنين.

لم يتفوق العرب في معركة الرأي العام العالمي على مدى عقود طويلة من الصراع، ظلت «إسرائيل» مهيمنة ورابحة بسبب التعاطف الشعبي الغربي، الموظف رسميًّا في قصور الحكم الأوروبية و«البيت الأبيض»، وكانت تل أبيب تلتقط تصريحًا من هنا وآخر من هناك لتكريس فكرة أنهم «ضحايا» للأشرار: قتلهم هتلر في المعسكرات والمحارق، واستعبدهم في أوشفيتز، في حين يريد العرب بعد ذلك إبادتهم بالإرهاب والترويع وإنكار حقهم في الحياة، ولما جاء طوفان الأقصى جرف كل هذه التفوق الصهيوني، وأدى إلى تحول عميق، قلب سردية الهولوكوست رأسًا على عقب، وكشف خرافة الضحية المثيرة للشفقة، وأظهر الوحش الصهيوني كجلاد ساديٍّ منحطّ الأخلاق منزوع الإنسانية.

أدت الصورة الجديدة (الكاشفة) إلى تغيير واسع في مواقف شعوب العالم، والنخب الغربية، وانهارت الصورة الأحادية لـ«الصهيوني الطيب» في مواجهة «الفلسطيني الإرهابي»، وانتشرت المقارنات في أوروبا وأمريكا نفسها لتصف قادة الكيان بالنازية وتتهمهم علنًا بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية فضلًا عن التطهير العرقي والفصل العنصري، وتهزأ بثوابت التكميم في نورمبرغ وادعاءات معاداة السامية.

هذه تغيرات جديدة ذات تأثير عميق وواسع في مآلات الصراع وقدرة طرفَيه على تحقيق الهدف النهائي لكل منهما، المؤكد أن يقظة الضمير العالمي ليست مجرد لحظة عابرة، لكنها تأسيس لمسار معاكس وصحيح، أنهى خدعة تصوير «إسرائيل» بوصفها «واحة ديمقراطية» وسط صحراء من الهمج والعرب الأشرار المتخلفين. ظهر الوجه القبيح لمرتكبي المجازر، قتلة الأطفال والنساء، صنّاع التجويع.

هذا التحوُّل العظيم في السردية الصهيونية، لم يحدث من ذاته، ولم يعتمد على مبدأ «مكر التاريخ» الذي فسر فيه هيغل بعض الأحداث التاريخية التي تتم خارج إرادة الإنسان وسعيه، لكنه كان ثمرة كفاح طويل أنضجه طوفان الأقصى، وحان حصاده للجميع (عربًا وبشرًا) وليس لحركات المقاومة في فلسطين وحدها.

أطاحت غزة تاريخًا كاملًا من الجهد الصهيوني لرسم صورة وردية زائفة عن إسرائيل وإضفاء معنى أو معاني محببة عليها، دمرت غزة معاني إسرائيل كما دمرت إسرائيل مباني غزة، فأي الدمارين أيسر في إعادة التعمير؛ المبنى أم المعنى؟

صارت أعلام فلسطين راية حرية وحق في ساحات العالم بفضل المقاوم الفلسطيني والمشهد الإنساني الذي صنعه أبطال الصمود المعجز في غزة كعرض إنساني استثنائي ملهم يعيد تقديم وتصحيح القضية للعالم الحر.

3 – سقوط وهم القبول العربي

يعرف الكيان الصهيوني أنه تأسس بالقوة لكنه لن يستمر إلا بالرضا، وأن الشرط الحاكم لبقاء الكيان تحدده ثلاثه كلمات: القبول الشعبي العربي.

لهذا راهن منذ تأسيسه على الوصول إلى هذا القبول. مرة بالمراوغة والخداع، ومرات بالحرب والإخضاع. وظنوا أن مسلسل التفريط العربي الذي بدأ من كامب دايفيد، سيؤدي مع الوقت إلى تطبيع الوجود وتوسيع الحدود بديلًا من حقيقة «صراع وجود وليس مجرد صراع حدود»، لكن هذا الظن الآثم تهاوى بعد 40 عامًا من وهم «كامب دايفيد»، فقد أثبتت ردود الفعل الشعبية على طوفان الأقصى أن العرب من الماء إلى الماء لم ولن يقبلوا بهذا الكيان الغريب القبيح، وأن كل الاتفاقات الموهومة لم تكن أكثر من أوراق رسمية محدودة التأثير في الشعوب والوجدان الحي للأمة الرافضة للمشروع الصهيوني والاحتلال المؤقت للأرض.

لم يخلق طوفان الأقصى حقيقة الرفض العربي للكيان الغاصب، لكنه أطاح أوهام 40 عامًا من الاتفاقات الورقية، فقد أظهر الطوفان مؤشر الرفض الجذري العميق لإسرائيل في وجدان وعقول الشعب العربي، واتسعت بفضل الطوفان مساحة الرفض والتنديد لتشمل مساحات هائلة من العالم شرقه وغربه، كما تجلت في الميديا وتظاهرات الشوارع، وبرامج التلفزيون وتصريحات النخب الفنية والفكرية وحفلات الغناء وكل مجال ومكان.

ولعل اتساع وفعالية المقاطعة لإسرائيل ومن يدعمها تقدم خريطة طبوغرافية جديدة تؤشر إلى مصير الوجود الصهيوني وترسم صورته من دون أقنعة عاش بفضلها عقودًا طويلة، والفضل الأكبر في إسقاط الأقنعة الصهيونية كان لطوفان الأقصى.

4 – التشبُّث بالأرض

على خلاف ما حدث عقب النكبة والنكسة، لم يفكر الفلسطيني المحصَّن بسلاح المقاومة في النزوح، كانت كل الظروف طاردة، وكانت الخطط مرسومة لتصنيع «حالة خنق» و«قوة طرد»، مع تجهيز الخيام والمخيمات في الجوار، فإذا هبت إسرائيل بالفزعة، هرول السكان إلى النزوح، لتمسي فلسطين قضية لاجئين لا قضية شعب ودولة، لكن النزوح في طوفان الأقصى كان حراكًا في الداخل، مناورات بقاء وصمود، إعلان مُدوٍّ صادمٌ للصهاينة ومبهرٌ للعالم عن التشبث بالأرض، والعيش وسط حطام البيوت والخيام المنصوبة في عراء لا يوفر مقومات الحياة، وكان التجلي الأعظم لهذا المعنى في مشهد العودة المهيب من جنوب غزة إلى شمالها ومن شمال لبنان إلى جنوبه.

أثبت الفلسطيني قدرته على التعلم والتطور والوعي بقضيته، كان جده يتصور أن النزوح مؤقت، وأن الأنظمة العربية ستبادر إلى إصلاح الوضع واسترداد الأرض، فاحتفظ بمفتاح بيته رمزًا للعودة القريبة، وغنى «غاب نهار آخر.. زادت غربتنا نهار، واقتربت عودتنا نهار»، لكن النهارات مرت ولم تقترب العودة، فقررت الأجيال الجديدة ألّا تخرج إلا لضرورة ومهمَّات عمل تخدم الحياة والقضية في الداخل، توزيع أدوار لخدمة قضية مركزية ناصعة اسمها الديار… اسمها فلسطين.

في الخيار القديم أدى النزوح الآمن، إلى سهولة تهويد الأرض وطمس الأسماء والهوية، وهو العقاب الذي ذاق مرارته كل فلسطيني خرج من بيته، فلم يجد لمفتاح بيته معنى إلا رمزية العودة، أما خيار البقاء الذي أشهره طوفان الأقصى كسلاح، فقد تحول إلى علامة من علامات النصر وإخفاق العدو في خطته الخبيثة لتفريغ الأرض من سكانها، وبالتالي من هويتها وتاريخها، وهذا من أهم المكاسب التي أعلنها للتاريخ طفل فلسطيني، وليس رئيس دولة، فلطالما شاهدنا أطفال غزة يعلنون التوجه الجديد بعزة وصمود، وهو في رأيي ورأي عقلاء العالم قوة الصمود الحقيقية التي يتأسس عليها كل أشكال الصمود وخطوات التقدم التالية على طريق تحرير فلسطين.

5 – من التقصير إلى التكفير

سنتان من الآلام دفعت فيهما غزه وشعب المقاومة ثمنًا غاليًا، وتعرضت فيه ضمائر الأمة العربية وأحرار العالم لشعور متعاظم بالتقصير تجاه فلسطين، صار لدينا «شعور كربلائي» يشبه شعور الذين رأوا الحسين وآل البيت يعطشون حتى الموت، ويقتلون تحت الحصار، هذا الشعور العميق بذنب التقصير سوف يكون له مفاعيله في المستقبل، فكل شعور بالتقصير يولد النزوع إلى التكفير تخلصًا من عقدة الذنب.

وحين تزحف موجة التكفير سيكون النظام الرسمي العربي أول المستهدفين من الجماهير التي قمعها ومنعها من التعبير عن نفسها نصرة لأهلها في غزة فاستحكمت لديها عقدة الذنب، واتسعت الهوة بين الشعب والنظام الرسمي الذي انكشف عجزه وتخاذله، وتآكلت بقايا شرعيته، وفقد الهيبة والرضا وهو يمعن في الهوان إذا مسّه الشر الصهيوني جزوعًا، وإذا زجره الأمريكي هلوعًا، واذا احتاج الفلسطيني بعض ما يتدفق من الريع النفطي منوعًا.

ليس جديدًا على الأمة العربية أن تتعايش مع الفجوة الفاصلة بينها وبين حكامها، وأن تحاول جَسرها، لكن خذلان غزة وسع الخرق على الراتق، إذ صارت الفجوةُ هوةً ساحقة بين شعب عربي لا يقبل الهزيمة ونظام عربي لا يقدر على النصر.

والراجح أن الأمة بداعي التكفير عن التقصير ستشهد محاولات للتغيير تذكرنا بما جرى بعد نكبة 1948 وبمقولة جمال عبد الناصر العائد من حصار الفالوجة إن تحرير فلسطين يبدأ بتحرير العواصم العربية.

ولو أن طوفان الأقصى لم يثمر سوى هذه الحقائق الخمس لكفاه كي يراه المنصف الواعي تقدمًا ناجزًا على طريق تحرير فلسطين.

ولأن هذه الحقائق الخمس تتطلب المزيد من الفحص والدراسة والتحليل وتتبع التأثير ومقترحات التثمير، فإني أطمح أن يوليها العقل العربي ما تستحق في إطار مشروع بحثي جاد يدحض خطاب الهزيمة ويعظم الوعي المقاوم ويبرهن أن النصر ممكن، وأن تحرير فلسطين في الإمكان.

ومَن أجدر بهذه المسؤولية وأقدر على هذه المهمة من «مركز دراسات الوحدة العربية» و«المستقبل العربي».

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى