شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: ورقة من مذكّراتي – 20 عامًا على أول انتخابات رئاسية (7/4)

قطار الأمل… واغتيال أبي.. وسقوط النظام قبل المنصات

من فضلكم شاهدو الفيديوهات المرفقة أولا فهي تلخيص لما ورد مفصلاً في هذه السطور بالورقة الرابعة من سباعية سبتمبر الذي لا ينتهي، فالذاكرة ما زالت تسكنها الأصوات والهتافات، والوجوه التي كانت تفتح أبوابها وقلوبها كلما توقّف بنا قطار الأمل. أكتبها وعيني على وجوهٍ صافية خرجت من بين الحقول والمصانع، وعلى وجه أبي الذي اغتاله خبر كاذب على شريط تلفزيوني، دون أن يطلقوا رصاصة، ودون أن يرفّ لهم جفن.

في سبتمبر 2005 لم تكن الحملة الانتخابية مجرد جولات انتخابية، بل كانت سفرًا طويلًا على قطار من الحلم. قطار يتحرك من محطة إلى أخرى، لا يحملني وحدي، بل يحمل كل من ركب معي حلم التغيير.

لم يكن معي مال الدولة ولا إعلامها، ولم تكن خلفي جيوش الموظفين، بل كانت أمامي الجماهير البسيطة: شباب يركضون بجوار السيارة، نساء يلوحن من الشرفات، عمال يوقفون آلاتهم ليهتفوا، وطلاب يكتبون اسمي على الجدران كأنهم يكتبون وعدًا جديدًا لمصر.

كان عمري أربعين عامًا وبضع شهور. خلعت ربطة العنق، وتركت البدلة الرسمية، واخترت أن أظهر بينهم في هيئة أقرب للشباب. كانت رسالة تقول إنني ابن هذا الجيل. لكن مبارك، الذي أوشك على الثمانين، حاول أن يقلّد التجربة نفسها. بدا مشهدًا مرتبكًا، فرجل من الماضي لا يمكن أن تطليه الألوان بلون المستقبل.

خلال 18 يومًا فقط زرت قرابة عشرين محافظة، ومررت على مئات القرى والمراكز. لم تعرف عيناي النوم. كنت أتنقل بين الناس ليلًا ونهارًا، فيما حملات مبارك وبقية المرشحين التسعة الآخرين لم تملك تلك اللياقة البدنية والسياسية التي امتازت بها حملتي بفضل الله، وبتوفيق رفاقي.

أذكر منهم ناجي الغطريفي، السفير ومساعد وزير الخارجية الأسبق، ووائل نواره، سكرتير عام الحزب، وهشام قاسم، الصحفي والناشر، وإيهاب الخولي، وجميله اسماعيل والدكتورة منى مكرم عبيد، وأيمن بركات، وآخرين كُثر.

في الإسكندرية كان لي سندٌ في المهندس سيد بسيوني ونجلاء فوزي وشاهيناز النجار، وفي البحيرة كان بريق الأسماء: أحمد ميلاد وبلال حبيب،والتيتي وفي أسوان والنوبة: النائب محمد العمدة، والأستاذ أحمد كاجوج، وهاني يوسف، وعبدالصبور عبدالصبور ومئات الوجوه المنيرة في كوم امبو وبأنه ونصر النوبه.

ومن إذاعة الغد الإعلامية الكبيرة الراحلة ملك إسماعيل ومحمد قطب ومحمد عبد الحي وأحمد بدوي ومن جريدة الغد هيثم الغيتاوي وعلي الفيل وحسام حسام الدين شحاته.

ولا أنسى مؤتمر باب الشعرية والذي شرفه بالحضور النائب الشجاع الراحل طلعت السادات، وعلى ذكر باب الشعرية كان هناك فريال وانشراح والسحرتي والحاجة ناهد وغيرهم الكثيرين. وهناك أيضًا المهندس المحترم مازن مصطفى واسرته، وكذلك وليدرياض ومحمودموسى.

في أسيوط ومنفلوط كان النائب عبد المنعم التونسي، وفي بورسعيد ارتفعت أصوات الشباب: حسام علي، محمد إيهاب، وفي السويس لم يغِب أبطالها: النائب طلعت خليل، والدكتورة عزة داوود، والشيخ حافظ سلامة الذي رافقني إلى الأزهر الشريف، إلى جوار مفتي الديار المصرية الدكتور نصر فريد واصل.

كانت المؤتمرات مفعمة بالروح، لكن الشوارع نفسها صارت منصة أوسع. الأسواق، الحقول، محطات القطار… كلها كانت مسارح للحرية. كنت أشعر أن صوت الناس أقوى من مكبرات الصوت.

النظام كان يراقب، ووجه مبارك لم يعد يخفي قلقه. أدرك أن المنافسة خرجت من شاشات التلفزيون إلى الشوارع، وأن اللعبة لم تعد أرقامًا على ورق.

الأمن حاول أن يوقف قطار الأمل. لاحقنا، أغلق القاعات، قطع الكهرباء عن مكبرات الصوت. لكن الناس كانوا هم الميكروفون الحقيقي. كل كلمة مني كانت تولد عشرات الهتافات منهم.

في المحلة، كنت على المنصة وإلى جواري عبد الفتاح الشافعي وأحمد غنيم. آلاف العمال أمامنا، حين حاولوا إسقاط المنصة فوقنا. لكن المنصة لم تسقط. بل ارتفعت معها الأصوات. كان سقوطًا مدويًا للنظام، نقلته شاشات العالم، وعلّق عليه محمد حسنين هيكل.

في نبروه، مسقط روحي، كان المشهد أعظم من الكلمات. في الإسكندرية مسقط رأسي، في دمنهور وكوم امبو ومنفلوط والمنيا وبورسعيد والسويس وباب الشعرية والموسكي — دائرتي — كل مؤتمر كان شهادة جديدة أن مصر ليست ساكنة، بل تتحرك.

في التحرير، الذي نجح هشام قاسم في انتزاع موافقة لإقامته، رأيت مصر كلها في ميدان واحد. لم يكن الميدان يملؤه الحديد ولا الجنود، بل الأمل. هناك قلت: “سنعود يومًا لهذا الميدان لنحتفل بالحرية.” وبعد خمس سنوات عدت إليه فعلًا، في ثورة يناير، لأقف على ذات المنصة ونحن نحتفل بسقوط الرئيس نفسه. كانت نبوءة وتحولت إلى حقيقة.

الدعاية الرسمية وصفتنا بالمغامرين. لكن المغامرة الحقيقية كانت أن نصمت، أن نترك مصر لعقود أخرى من الركود والتوريث.

ولضيق الوقت، استأجرنا قطارًا أسميته قطار الأمل والتغيير. في كل محطة كان القطار يتوقف عندها، كنا نعقد مؤتمرات خاطفة يحضرها الآلاف. كان القطار يترك خلفه أثرًا لا يُمحى: أيادٍ تصافحني، دموع تسيل على وجهي، طفل يرفع لافتة أكبر من قامته.

لم تكن الحملة أرقامًا في دفاتر، بل دمًا يجري في عروق وطن. لم يكن المؤيدون مجرد ناخبين، بل شهودًا على لحظة تحول.

في عيون النساء رأيت القوة، في هتافات الشباب رأيت الجرأة، وفي وجوه الفقراء رأيت الحلم بأن العدالة ليست كلمة في الكتب، بل حق يُنتزع على الأرض.

السلطة فزعت من كل صورة التقطتها عدسة صحفي، من كل مقال في صحيفة عربية أو أجنبية، من كل هتاف خرج عن النصوص المقررة.

حاولوا تشويه صورتي: في المحافظات ذات الكثافة السكانية القبطية فقالوا إني متطرف إسلامي، وفي المحافظات سلفية الهوى قالوا إنني من أصول مسيحية!. قالوا في عموم البلاد إنني مبعوث أمريكا، وإنني أحمل جنسيتها، رغم أنني لم أزرها يومًا!.

لكن الكذبة التي قتلت كانت ما بثه وزير إعلام الأسرة الحاكمة أنس الفقي على شاشة القناة الأولى: خبر كاذب عن القبض علي في قضية رشوة!. وحين قرأ والدي هذا الخبر، سقط قلبه قبل جسده، ودخل المستشفى. لم تمض أيام حتى رحل. لقد اغتالوه بالكذب، لا بالرصاص.

اتصلت يوم إذاعة الخبر بالوزير أنس الفقي، فكان وقحًا لأقصى درجة عندما قال إنه يعلم أن الخبر كاذب. وقال: سنحذفه لاحقًا من شريط الأخبار لكنه لم يفعل.

عرفت يومها أن الإعلام حين يفقد ضميره يصبح قاتلًا، وأن الكلمة قد تقتل كما يقتل الرصاص.

هذا أنس هو أيضًا من حصل على قيمة إعلان عن حملتي بصوت أسامه منير وغناء محمد منير وألحان هاني شنوده، ورفض إذاعة الإعلان أو رد قيمته!

ومع ذلك، ظل قلبي مملوءًا بإيمان الناس. تعلمت أن المنصات ليست خشبًا يُقام، بل قلوب تُفتح. وأن الانتخابات ليست سباق أسماء، بل مواجهة بين الخوف والأمل.

كانت 18 يومًا فقط هي مدة الدعاية الرسمية، لكنها كانت بعمر سنوات. كتبت فصلًا جديدًا في كتاب مصر.

لم تكن المؤتمرات خطبًا ألقيها، بل رسائل يكتبها الناس في عيونهم. لم أكن أخاطبهم بقدر ما كانوا يخاطبونني: اثبت… نحن معك.

تلك الحملة لم تكن مجرد خطوة انتخابية؛ كانت صحوة وطنية. كانت إعلانًا أن مصر ليست رهينة الأرقام الرسمية، بل تملك روحًا لا تُزوَّر.

واليوم، بعد عشرين عامًا، ما زلت أسمع هتاف المحلة، وأرى ميدان التحرير، وأشعر بارتباك السلطة، كأن اللحظة لم تمر، بل لا تزال حاضرة.

هذه الورقة الرابعة ليست عن المؤتمرات فقط، بل عن الأمل حين يتجسد قطارًا يمضي، وعن الأب الحنون الذي اغتاله الإعلام بلا دم ولا ضمير.

وفي الخاتمة: في الورقة الخامسة، سأترك صخب المؤتمرات، وأدخل إلى صمت الزنازين، حيث تحوّلت أصوات الناس في الخارج إلى جدران وسلاسل في الداخل. هناك تبدأ الحكاية من جديد، مع زنازين ما بعد الصندوق، في سباعية سبتمبر الذي لا ينتهي.

https://www.facebook.com/story.php?story_fbid=10230102052882902&id=1460018059&rdid=xr51dfOr3s1cLC19#

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى