شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: ورقة من مذكّراتي . 20 عامًا على أول انتخابات رئاسية (5/7)


لم أهزم مبارك… ولم يهزمني
رئيس لجنة الانتخابات أقسم بالطلاق أنه لن يعطيني 50% في الإسكندرية

أكتب هذه الورقة الخامسة بعد عشرين عامًا كاملة، وما زالت الذاكرة مثقلةً برائحة الأوراق الممهورة بخاتم النسر، وبدهشةٍ أصابتني حين أدركت أن الحقيقة قد تُسجن كما يُسجن صاحبها، وأن الأرقام حين تُغيَّر تتحول إلى قيود لا تُرى.

كنت في طريقي إلى مقر اللجنة العليا للانتخابات، أبحث عن سر تأخر إعلان النتائج، حين التقيت بالصحفي القدير، والزميل العزيز ثروت شلبي. حيّاني بابتسامة عابرة، ثم دسّ في جيبي لفافة أوراق دون أن ينطق بكلمة، كمن يسلم وصيةً في جنازة.

لم ألتفت في البداية، حتى مددت يدي إلى جيبي، فإذا بي أمسك بلفافةٍ أثقل من حجمي. فتحتها وأنا في الطريق إلى اللجنة، فإذا هي نتائج الإسكندرية، وصلته عبر فاكس من المستشار الشريف هشام البسطويسي، تحمل أرقام اللجان الفرعية لجنةً لجنة، مختومةً بخاتم النسر.

هناك، على صفحات رسمية، وجدت نفسي الأول بنسبة 63% وبضع كسور. كانت لحظةً كفيلة بأن تخلخل أركان يقيني كله: فها هي الأوراق الرسمية تنطق بما لا يجرؤ التلفزيون على قوله.

وصلت إلى مقر اللجنة العليا، حيث استقبلني المستشار حاتم بجاتو وأدخلني غرفة رئيس اللجنة المستشار ممدوح مرعي. كان الرجل متوترًا، أزرار سترته تنطق بما في صدره من ارتباك. سألته عن موعد إعلان النتائج، فقال: “بعض المحافظات لم تصل بعد.” سألته مباشرة عن الإسكندرية، فقال: “حققت نتائج كبيرة… تجاوزت 36% بقليل.”

أخرجت الأوراق من جيبي، وضعتها أمامه، وقلت بهدوء مشوب بالذهول: “الرقم انقلب، النتيجة الحقيقية 63%، لا 36%.”

عندها خرج مرعي عن وقاره، وصاح بحدة غريبة: “عليّ الطلاق بالثلاثة ما هتاخد أكتر من 50% في العاصمة الثانية.”

أدهشني رد فعله، حتى خرجت عن هدوئي، فقلت ساخرًا ومريرًا: “هذه ليست انتخابات… كأننا نبيع طماطم في سوق الخضار!” ارتفعت الأصوات في الغرفة، فدخل حاتم بجاتو يحاول تهدئة العاصفة.

قال مرعي بعدها بصوتٍ منهك: “إحنا مش عارفين نبلّغه النتيجة. كل ما أبلّغ حد، يقول لي: ماليش دعوة… بلّغه إنت.”

سألته مباشرة: “هل هناك إعادة؟” قال: “لا طبعًا.” قلت: “هل سقط مبارك؟” رد ساخرًا: “لا طبعًا.” قلت: “إذن لماذا لم تُعلنها؟” أجاب: “23% رقم مزعج في الانتخابات القادمة… فتقبّل النتيجة، ولا تطعن عليها.”

كنت قد تقدمت بالفعل بعدة طعون، أضفت إليها طعني على نتيجة الإسكندرية.

بعد أيام قليلة، جاء مبارك إلى البرلمان ليقسم اليمين، وبجواره العقيد معمر القذافي. كنت حاضرًا الجلسة بصفتي نائبا. رأيت الحرس الجمهوري بملابس مدنية يحيطون بي من كل جانب، كأنني المتهم لا الشاهد.

حين دخل مبارك والقذافي، وقف الجميع وصفقوا. لم أقف، ولم أصفق. انتبه القذافي لوجودي، ولوّح لي بتحية أربكتني. خشيت إن رددتها أن تُفهم أنها للرئيس الجالس إلي جواره، فيُقال: “أيمن نور حيّا مبارك!” جلست متجمّد الملامح، أقاوم ارتجاف قلبي، كتمثال لا يبتسم ولا يقطّب.

لم تمر سوى أيام، حتى عدت للمرة الخامسة إلى سجون طرة، لكن هذه المرة لأقضي أطول فترة اعتقال في حياتي: خمس سنوات كاملة.

كان دخولي السجن هذه المرة مختلفًا. لم يكن عقابًا على كلمة، بل كان اعتقالًا للحقيقة نفسها. الحقيقة التي حملتها أوراق الإسكندرية، والتي فزعت منها اللجنة، فحوّلتها من شهادة نزاهة إلى تهمة ضدي.

في ديسمبر 2006، وأنا في سجني، فوجئت باستدعاء إلى محكمة الجلاء. كنت أظنها جلسة عادية، فإذا بي أمام قضية تتهمني بـ“الاستيلاء على أوراق حكومية أميرية”! كانت الأوراق المقصودة هي نفسها أوراق نتائج الإسكندرية التي وصلتني من ثروت شلبي.

طلبت من القاضي أن يُثبت أصل هذه الأوراق في المحضر. كان قصدي أن تظل الحقيقة مكتوبة لا تُمحى. أدرك القاضي هدفي، فأصدر حكمًا بالبراءة فورًا، من دون مداولة، حتى لا يُثبت الأصل في المحضر.

خرجت من القاعة بريئًا في القانون، لكن الحقيقة بقيت حبيسةً في الأدراج. منذ ذلك اليوم، والسؤال يطاردني: هل هزمت مبارك لولا التزوير؟ لا أستطيع أن أجزم. وهل هزمني هو؟ لا أستطيع أن أقولها أيضًا.

الحقيقة أنني، منذ 7 سبتمبر 2005 وحتى 5 سبتمبر 2025، لا أعرف النتيجة الحقيقية. بين 63% و36% ضاعت الحقيقة، كما يضيع الصوت في ضجيج القاعات.

ما أعرفه فقط أنني حللت ثانيًا بين عشرة مرشحين، وأن حزب الغد، الذي لم يتجاوز عمره شهورًا، صار زعامة معارضة تخشاها الدولة.

ما جرى لم يكن معركة بيني وبين رجل يجلس على الكرسي، بل معركة بين شعبٍ وصندوقٍ لم ينطق بما وُضع فيه.

واليوم، بعد عشرين عامًا، أكتب هذه الورقة الخامسة لا لأعلن نصرًا ولا هزيمة، بل لأعلن أن الحقيقة ما زالت معتقلة، وأن صوت الناس لم يُفرج عنه بعد.

وفي الورقة السادسة، سأغادر ضجيج الأرقام وأدخل صمت الزنازين، حيث تُطفأ الأضواء، وتُغلق الأبواب، ويبقى الإنسان مع صوته الداخلي. هناك سأكتب عن زنازين ما بعد الصندوق، حيث تبدأ فصول أخرى من سبتمبر الذي لا ينتهي.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى