مقالات وآراء

ايمان الجارحى يكتب : حين يبتلع الوعيُ الجمعي صانعيه أزمة القيادة الفكرية للمشاريع الكبرى

وعي الشعوب ليس كتلةً صمّاء ولا قالبًا جامدًا بل كائن حي متحرّك يتأرجح بين وعى آنيّ تصنعه الظروف ورأي عام يتشكل بفعل الأحداث وفكرة راسخة تتحوّل بمرور الزمن إلى عقيدة تسكن الوجدان


هذه الديناميكية تصنع من الشعوب قوةً هائلةولكنها في الوقت نفسه تُنتج واقع متقلب يصعب على النخب وأصحاب المشاريع الكبرى السيطرة عليه دون امتلاك أدوات وعيٍ فاعلة.

الوعي الشعبي لا يُبنى دفعة واحدة بل يتراكم عبر طبقات متداخلة من التجارب و الصدمات و المواقف.

وعي اللحظة ذلك الوعي الذي تفرضه صدمة الواقع أو انفجار حدث استثنائي وعيٌ سريع متوتر مشحون بالعاطفة.

الرأي العام وعيٌ أبطأ وأكثر رسوخ يتكوّن بفعل تكرار الأحداث و التفاعلات معها .

الفكرة الراسخة تلك التي تتسلل ببطء إلى أعماق الذاكرة الجمعية وتستقر هناك حتى تتحوّل إلى عقيدة جمعية لا تقبل المساومة.

لكن هذه المراحل لا تسير دائمًا في خط مستقيم فقد تُختطف الفكرة قبل نضوجها أو يُوجَّه الرأي العام بعيدًا عن مقاصد المشروع أو يُستنزف وعي اللحظة قبل أن يتحوّل إلى إدراك بشكل دائم

في قلب معركة تشكيل الوعي يقف الإعلام بوصفه الفاعل الأخطر. فالإعلام الهادف لا يكتفي بنقل الأحداث، بل يعيد تشكيلها داخل أذهان الجماهير:

يمكنه تحويل وعي اللحظة إلى رأي عام ناضج.

ويمكنه بلورة الأفكار حتى تستقر في الوجدان وتتحوّل إلى قناعات راسخة.

لكنه حين يُستغل أو ينحرف يصنع أوهامًا كبرى ويزرع عقائد زائفة فتتحوّل الشعوب إلى وقود لمشاريع الآخرين.

يُفترض بالمثقفين وأصحاب المشاريع الكبرى أن يكونوا مهندسي الوعي لا أسرى له دورهم لا يقتصر على الاستجابة لمزاج الجماهير بل يشمل غربلة الأفكار من شوائبها وأوهامها
صياغة رؤى متماسكة تربط اللحظة بمسارها التاريخي ومستقبلها.
توجيه الرأي العام من الانفعال اللحظي إلى إدراك استراتيجي متماسك.

أخطر ما قد يواجه أي مشروع فكري أو حضاري هو فقدان القدرة على التمييز بين صوت الجماهير وصوت الفكرة.
فعندما يغيب النقد الذاتي وتختلط حدود المشروع بمزاج الرأي العام تتحوّل النخب من رواد رؤية إلى أسرى اتجاهات آنية.

في هذه اللحظة تتصدّع البنية الداخلية للمشروع فتضيع البوصلة الفكرية و تتحوّل العقيدة من قوة دافعة إلى قيدٍ ثقيل ويصبح المشروع مهدد بالذوبان .

إن المشاريع الكبرى لا تنتصر حين تلهث خلف الرأي العام بل حين تصنعه وتشكّله.
ولا تنجح حين تستسلم لوعي اللحظة، بل حين تحوّله إلى وعي استراتيجي قادر على الصمود أمام العواصف.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى