
ثلاثية السجن، الثورة، والمنفى
أكتب هذه الورقة السابعة والأخيرة كمن يضع النقطة في نهاية جملة طويلة، جملة استغرقت مني عشرين عامًا من العمر، وعشرين عامًا من النزيف والانتظار. لا أكتب خاتمة بقدر ما أكتب مفتتحًا جديدًا، لأن سبتمبر لم يكن يومًا مجرد فصل، بل كان كتابًا مفتوحًا لا يُغلق.
عشرون عامًا مرّت، حملتني بين جدران السجون، ووسط هدير الميادين، وبرد المنافي. ثلاثية كاملة: السجن… الثورة… المنفى. ثلاثية علّمتني أن الحرية ليست هدية من حاكم، بل حق ينتزع، وأن الديمقراطية ليست قرارًا فوقيًّا، بل معركة تُخاض.
في السجن، تعلمت أن القيد لا يحبس الفكرة، وأن الجدران التي يظنها المستبد سجنًا للآخرين، إنما تتحول إلى مرآة يرى فيها نفسه عاريًا من شرعية.
في الثورة، رأيت بأم عيني كيف يهتز العرش حين تهتز القلوب في ميدان التحرير. كيف يهتف الناس بأجسادهم قبل حناجرهم أن زمن الخوف انتهى، وأن الفرعون لم يعد نصف إله، بل إنسان يسقط مع أول هتاف صادق.
في المنفى، تعلمت أن الغربة ليست مكانًا بعيدًا، بل مسافة داخلية بينك وبين وطنك. وأن الجسد يمكن أن يُنفى، لكن الصوت لا يُنفى، وأن الكلمة تستطيع أن تعبر البحار، وأن تعيش في ذاكرة الناس أطول مما تعيش في جسد قائلها.
كنا نظن أن أول انتخابات رئاسية في مصر ستكون ميلادًا جديدًا، فإذا بها تتحول إلى سرادق عزاء للديمقراطية. دفنوا فيها الحلم، كما دفنوا الشاهد أيمن إسماعيل حين قرر أن يقول الحقيقة.
لم يكن اعتقالي عقوبة على جريمة، بل كان اعتقالًا للحقيقة نفسها. الحقيقة التي لم يحتملوها. كنت وصيف الانتخابات، فحوّلوني إلى سجين، ليقولوا للشعب: لا بديل عن مبارك الأب إلا مبارك الابن.
لكن ما لم يدركوه أن السجن، بدل أن يقتل الفكرة، جعلها أعمق. كما قال نزار قباني: حين تُكسر الزهرة، يفوح عطرها أكثر.
وفي الثورة، عاد العطر يفوح. عدت إلى الميدان الذي تنبأت به في حملتي عام 2005، وقلت إننا سنعود إلى ميدان الحرية لنحتفل بالحرية. وعدت فعلًا، في يناير 2011، لأشهد السقوط الذي تأخر، لكن لم يُلغَ.
لم تكن الثورة يومًا واحدًا، بل كانت استكمالًا لمسار بدأ منذ 2004 مع حركة كفاية. وقرار حزب الغد بخوض الانتخابات الرئاسية. كانت الثورة جنينًا حملناه منذ تلك اللحظة، وولد بعد ست سنوات.
من يتهمنا اليوم أننا فرطنا في الحرية، لا يعرف الثمن الذي دفعناه. نحن لم نفرط، نحن تمسكنا بما لا يعرفون التمسك به، ورفضنا المقايضة على ما لا يُباع.
نحن الذين كنا رمز الشجاعة حين لجأ الجميع إلى “الحكمة” التي كانت أقرب إلى الخوف أو المواربة. ونحن الذين كنا رمز الحكمة الحقيقية بعد الثورة، حين تحوّل الكثيرون إلى مزايدين بلا ثمن، يقامرون بمصير وطن.
في السجن، جاءني العرض تلو العرض: حرّيتك مقابل صمتك. كنت أرفض، لأن الحرية إذا لم تكن كاملة فهي ليست حرية.
في الثورة، جاءني الأمل الذي كافأني على الصبر. رأيت أن التضحية لم تذهب سدى، وأن الدماء التي سالت لم تُهدر، وأن الخوف يمكن أن يسقط في ليلة واحدة إذا اجتمع الناس على كلمة.
في المنفى، دفعت ثمنًا آخر. أن تكون بعيدًا عن ترابك، أن تشتاق لرائحة شارعك، أن تُحرم من دفن أبيك وأمك، أن تظل غريبًا عن مكانك، لكنك قريب من قضيتك.
هذه الثلاثية لم تكن خيارًا، بل قَدَرًا. لكنها علمتني أن الإنسان الذي ينجو من السجن، ويشارك في الثورة، ويصمد في المنفى، لا يعود كما كان، بل يعود أكثر صلابةً وأكثر إيمانًا.
عشرون عامًا، لم تهزم الحلم. عشرون عامًا، لم تُسكت الصوت. عشرون عامًا، جعلتني أؤمن أن الشعوب قد تتعثر، لكنها لا تموت.
لا أستطيع أن أقول إنني هزمت مبارك، ولا أن أقول إنه هزمني. لكنني أستطيع أن أقول: لقد هزمنا جميعًا فكرة أن الاستبداد أبدي.
سبتمبر كان شاهدًا على كل ذلك: من زنزانة طرة، إلى منصات التحرير، إلى برد المنافي. سبتمبر الذي لم ينتهِ، لأنه لم يكن مجرد شهر، بل كان امتحانًا متجددًا للروح.
كتبت هذه السباعية لأقول: لم تكن معركتنا مجرد انتخابات، بل كانت ثورة قبل الثورة. لم تكن هزيمتنا مجرد سجن، بل كانت شهادة ميلاد لفكرة. لم يكن منفانا مجرد اغتراب، بل كان جسرًا لصوتٍ أبعد من حدود الأرض.
هذه السباعية ليست حكاية فرد، بل شهادة وطن. شهادة أن الحرية قد تُسجن، لكن لا تُقتل. أن الثورة قد تُسرق، لكنها لا تُمحى. أن المنفى قد يطول، لكنه لا يُنسيك الطريق.
وحين يقرأ الناس هذه الأوراق بعد عشرين عامًا، لعلهم يدركون أن سبتمبر لم ينتهِ، وأنه ما زال يطرق أبوابنا كل عام، يسألنا: هل أنتم مستعدون لتجربة أخرى؟ هل أنتم مستعدون لحلم جديد؟
وختامًا، أقول كما قال نزار قباني: “إنني مؤمن أن في داخل كل إنسان ثائرًا نائمًا، قد يفيق يومًا، فيغيّر وجه التاريخ.”
هذه هي الورقة السابعة، الورقة الأخيرة، لكنها أيضًا الورقة الأولى في كتاب آخر لم يُكتب بعد… كتاب الحرية القادم، الذي لن يُختم حتى تنتهي حكاية الاستبداد من أرضنا إلى الأبد.
https://www.facebook.com/watch/?mibextid=wwXIfr&v=1094797416092047&rdid=zmoZeQUf1L3mZBJI