مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: ورقة من مذكّراتي.. 20 عامًا على أول انتخابات رئاسية — 6 من 7

حين صار الوصيف سجينًا، والشاهد قتيلًا، والحقيقة أسيرة

أكتب هذه الورقة كما يكتب شاعر على جدار مهدّم، أو كما يصرخ طائر مذبوح قبل أن يسقط صامتًا.

إنها ليست فقط حكاية وصيف انتخابات تحوّل إلى سجين، بل هي سيرة بلد كامل حاول أن يخرج من جلباب الفرعون، فحاصرته الغرفة السوداء، وأغلقوا عليه الأبواب، وأطفأوا الأنوار، وتركوه مع ظله وذاكرته.

أكتب هذه الورقة عن زمنٍ نافستُ فيه أنصاف الآلهة، وأنا أعرف أنهم لا يوزّعون مقاعد في الجنّة، بل يشعلون النار في أجساد خصومهم.

ومع ذلك، كانت النار التي أضرموها حولي تضيء الطريق، وتفضح الظلام.

أكتب عن رجل بسيط اسمه أيمن إسماعيل، لا يعرف القراءة والكتابة، قُتل لأن الحقيقة خرجت من بين شفتيه، فأرادوا أن يُسكتوها للأبد.

وأكتب عن قاضٍ، وعن نظام، وعن عائلة كانت تفور غضبًا كلما ذُكر اسمي، حتى سجنتني خمس سنوات بقرارٍ لم يكتبه القاضي بل وقعه بعد ان كتبه الرئيس.

لم تكن معركة 7 سبتمبر 2005 معركةً عادية بين مرشحٍ ورئيس، بل كانت معركةً بين الثورة قبل الثورة، وبين مشروع التوريث الذي أعدّوه في الغرف المظلمة.

كنت أعرف أنني أضع رأسي على يدي اليمنى، وحريتي على يدي اليسرى. أعرف أني لا أدخل انتخابات، بل أدخل امتحانًا وجوديًا، ثمنه الحرية أو السجن. أو الحياة كلها.

لم يكن خصمي مبارك وحده، بل كانت الغرفة السوداء، التي تتصدرها وتقودها السيدة سوزان مبارك، التي كانت تُدير مشهدًا عينها فيه على نجلها الأصغر (الوريث ) جمال مبارك.

وكان همّها الحقيقي أن يمنعوني من أن أكون الرقم الصعب أمام جمال، إذا غاب الأب.

وقد قالها وزير خارجية مبارك نفسه، أحمد أبوالغيط، في مذكراته: “اعتقال أيمن نور كان لمنع منافسة جمال.” !شهادة خرجت من قلب النظام، كدمعة من عينٍ حجبتها سنين.

كانت الطعنة الأقسى حين اكتشفت أن بعض رموز المعارضة، بدل أن تكون سندًا، اتهمتني أنني جزء من صفقة. تلك التهمه الساذجة المتكررة.

وعندما انكشف زيف ظنهم، لم يملكوا شجاعة الاعتذار، بل صمتوا، ظنًا أنهم يشترون بهذا الصمت فتاتًا من موائد السلطة.

في الانتخابات التشريعية اللاحقة لكن الحقيقة كانت أقوى: المعركة جرت فعلًا، وصداها ظل يتردد في كل شارع وميدان. كنتُ في مواجهة مبارك الأب، لكن عيني كانت ايضاً، على الابن، وعلى المستقبل الذي خططوا له ليكون بلا بدائل.

أخرجوا نعمان جمعة من الجب إلى الحلبة ليكون وصيفًا صوريًا، أنفق الملايين على وعدٍ أن يحل ثانيًا، لكنه خرج ثالثًا مهزومًا، بل ممزقًا.

أما أنا، فكان مساري وقدري هو السجون و التشويه، المحاكمات، والإشاعات.

لم يتركوا سلاحًا محرّمًا إلا استخدموه، من حملات التشويه الأخلاقي، إلى قضايا ملفقة، إلى ابتزاز إعلامي وسياسي.

المحاكمة الزائفة كانت أقذر الأسلحة.

تهمة “تزوير توكيلات حزب الغد” وُلدت ميتة، لكنها صُممت لتشغلني عن الحملة. جلسات صباحية في المحاكم، تحولت إلى مؤتمرات انتخابية جماهيرية، ثم مؤتمرات مسائية في المحافظات.

كانوا يظنون أن القفص سيكسرني، فإذا بالناس يرونني رمزًا لا متهمًا، ويرفعونني على أكتافهم من بوابة المحكمة إلى منصات الأمل.

في جلسة ، بغرفة المداولة، قال لي القاضي عادل عبدالسلام جمعة، رئيس الدائرة: “ارفع عنا الحرج… مكالمة واحدة، وتعهد بسيط، ونغلق الملف.”

كان العرض واضحًا: حرّيتك مقابل صمتك.

جاءني العرض نفسه من محمود وجدي، رئيس مصلحة السجون، الذي زارني في زنزانتي. وجاءني في رسائل من كمال الشاذلي وصفوت الشريف و#فتحي_سرور.

كانوا يريدونني زعيمًا للمعارضة على الورق، لكن خارج المعادلة الحقيقية.

لكنني اخترت الأصعب: أن أبقى حرًا في داخلي، حتى ولو كنت أسيرًا في زنزانة. أن أخسر مقعدًا، ولا أخسر المعنى.

و هنا يظهر اسم أيمن إسماعيل الرفاعي.

رجل لا يعرف القراءة ولا الكتابة، دفعوه ليعترف أنه زوّر التوكيلات بخطه، وبأوامري.

تحت تهديد اختطاف بنات شقيقته، قال ما أرادوا. لكن النيابة استكتبته، فاكتشفوا أنه أمّي لا يجيد الكتابة أصلًا.

في المحكمة أعلن الحقيقة: أنه لم يعرفني يومًا، وأن الضابط عادل ياسين عذبه ليوقّع على محضر مزيف.

عندها ارتبك القاضي عادل عبدالسلام جمعة، وأوقف الجلسة.

أرسل أيمن إلى سجن الاستئناف ليستمعوا إليه لاحقًا.

لكنهم لم يستمعوا إليه.

في اليوم التالي جاء الخبر: أيمن إسماعيل “مشنوقًا” في زنزانته.

اللواء الطبيب طارق منير كتب أن الوفاة ليست شنقًا بل خنقًا.

الزرقة في ظهره، والكسر في غضروف حنجرته. لكن العقيد الطبيب أيمن خليل كتب التقرير كما أرادوا، بعد مكالمة من اللواء عمر الفرماوي.

هكذا أُسكت الشاهد الوحيد، ودفنت الحقيقة معه.

لم يكن مبارك وحده من غضب. كانت العائلة كلها تفور.

وقد قالت هيلاري كلينتون في مذكراتها: “مبارك كان يفور غضبًا كلما سمع اسم أيمن نور.”

الغضب لم يكن سياسيًا، بل كان شهوة انتقام.

رغبة في القتل لا في الجدال، في الدفن لا في الحوار.

من وصيف انتخابات رئاسية، أصبحت سجينًا بعد ايام (خمس سنوات) في #\طرة.

لم يكن الحكم صادرًا من القاضي، بل من الرئيس.

لكن كما “حين تُكسر الزهرة، يفوح عطرها أكثر.” في الزنزانة، لم يمت الأمل، بل اشتد عبيره.

كنت أكتب على جدران الزنزانة بذاكرتي، كمن يكتب على الهواء.

أقول لنفسي: إنهم حبسوا جسدك، لكنهم لم يحبسوا حُلمك.

واليوم، بعد عشرين عامًا، أستطيع أن أقول: لم أهزم مبارك، لكنه أيضًا لم يهزمني.

لم يهزمني لأنني خرجت من السجن حيًّا، والفكرة ما زالت حية.

ولم أهزمه لأنه مات ومازال ظله في يده السلطة، لكن السلطة لم تمحُ أثر الحلم.

منافسة أنصاف الآلهة قد تقودك إلى الزنزانة، لكن الزنازين لا تقتل الفكرة.

وفي الورقة السابعة، والأخيرة، سأكتب عن الثلاثية التي وسمت عشرين عامًا من حياتي:

السجن، ثم الثورة، ثم المنفى.

ثلاثية العذاب والرجاء، التجربة والمرارة، الصبر واليقين، ليظل سبتمبر شاهدًا أن الطريق إلى الحرية قد يطول، لكنه لا ينتهي

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى