خاص..سقوط الحكومة الفرنسية.. أزمة موازنة تتحول إلى أزمة دولة

موقع أخبار الغد
لم يكن سقوط حكومة رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو مفاجئًا بقدر ما كان كاشفًا لعمق الأزمة التي تخنق ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو. البرلمان الفرنسي حجب الثقة عن الحكومة بعد فشلها في تمرير خطتها لخفض العجز والدَّين العام، لتدخل فرنسا مرحلة شلل سياسي ودستوري في ظرفٍ بالغ الحساسية داخليًا وأوروبيًا ودوليًا.
الأزمة بدأت من أرقام صادمة: عجز مالي يقارب 6٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 170 مليار يورو، فيما يفرض الاتحاد الأوروبي سقفًا لا يتجاوز 3٪. أما الدَّين العام فقد بلغ 3.345 تريليون يورو، أي ما يعادل 114٪ من الناتج المحلي، ما يجعل فرنسا في المرتبة الثالثة أوروبيًا بعد اليونان وإيطاليا من حيث عبء الديون. خدمة هذا الدين صارت عبئًا خانقًا، يبتلع موارد الدولة ويحدّ من قدرتها على الإنفاق الاجتماعي والاستثماري.
الرئيس إيمانويل ماكرون يجد نفسه أمام ثلاثة مسارات كلها مُكلفة: إما تشكيل حكومة توافقية ببرنامج حدٍّ أدنى يرضي أطرافًا متناقضة، أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة محفوفة بصعود اليمين المتطرف، أو ترك البلاد في حالة تصريف أعمال مطوَّلة تُنذر بمزيد من الانهيار المالي وخفض التصنيف الائتماني.
الانعكاسات على الاقتصاد الفرنسي ستكون مباشرة: الأسواق ستراقب عن كثب الفارق بين السندات الفرنسية (OAT) والألمانية (Bund)، وأي فشل في تقديم موازنة مقنعة لبروكسل سيؤدي إلى اتساع هذا الفارق وزيادة كلفة الاقتراض. أما الاتحاد الأوروبي، فقد قرر بالفعل إخضاع باريس لإجراءات العجز المفرط (EDP) منذ يناير 2025، ما يعني ضغوطًا أقوى لفرض خطة ضبط مالي تدريجية لكنها أكثر مصداقية.
داخليًا، فرنسا أمام مأزق مزدوج: لا قدرة على تحمل تقشف قاسٍ في ظل تصاعد السخط الاجتماعي واحتجاجات النقابات، ولا قدرة أيضًا على الاستمرار في مستويات عجز تتجاوز ضعف ما تسمح به قواعد الاتحاد. بهذا تصبح معضلة “الموازنة” مدخلًا إلى أزمة حكم.
خارجيًا، تداعيات سقوط الحكومة الفرنسية تمتد أبعد من باريس:
في أوروبا: غياب الاستقرار في ثاني أكبر اقتصاد يضعف الثقة في منطقة اليورو ويزيد من هشاشة التعافي، ويمنح برلين نفوذًا أكبر، فيما تسعى روما ومدريد لملء الفراغ.
في الصراع الروسي الأوروبي: فرنسا، أحد أعمدة الدعم الغربي لكييف، ستتباطأ قراراتها بشأن التمويل والتسليح، وهو ما تستغله موسكو دعائيًا باعتباره دليل إنهاك للمعسكر الأوروبي.
في العلاقات العربية الفرنسية: لا يُتوقع إلغاء صفقات الدفاع أو الطيران الكبرى مع مصر أو الخليج أو المغرب، لكن من المرجح تباطؤ في إقرار عقود جديدة أو تغييرات في جداول التمويل. في المقابل، قد تزداد شهية الشركات الفرنسية للبحث عن فرص استثمارية في المنطقة لتعويض ضعف النمو في الداخل. أما على صعيد الوساطة السياسية (لبنان، تونس، الساحل الأفريقي)، فإن قدرة باريس على المبادرة ستتراجع، ما يفتح الباب أمام عواصم أخرى كأنقرة وروما ومدريد.
السيناريوهات المتوقعة خلال الأشهر التسعين المقبلة تتراوح بين صفقة حدٍّ أدنى لتشكيل حكومة وسطية تخفض العجز تدريجيًا على مدى 3–4 سنوات، أو انتخابات مبكرة تُعيد رسم الخريطة السياسية في فرنسا وقد تصعّد الشعبويين، أو شلل ممتد يضاعف الضغوط المالية ويضع منطقة اليورو أمام اختبار جديد.
في كل الحالات، ما جرى في باريس ليس مجرد سقوط حكومة، بل إنذار صارخ بأن نموذج تمويل العجز عبر الديون وصل إلى حدّه الأقصى. ومع غياب الرؤية التنموية البديلة، فإن فرنسا لا تواجه أزمة موازنة فقط، بل أزمة ثقة في نظامها السياسي والاقتصادي معًا.
📝 المصادر والمراجع:
• تقرير France 24: تفاصيل حجب الثقة وسقوط حكومة بايرو .
• تحليل Politico Europe حول الخيارات الدستورية أمام ماكرون .
• تغطية Le Monde عن السيناريوهات السياسية المقبلة .
• بيانات المفوضية الأوروبية حول إجراءات العجز المفرط ضد فرنسا (يناير 2025) .
• أرقام المعهد الوطني للإحصاء الفرنسي INSEE: الدين العام 3.345 تريليون يورو (114٪ من الناتج) .
• تقارير اقتصادية أوروبية عن تداعيات الأزمة على الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو .