ملفات وتقارير

د.تامر المغازي يكتب: سقوط الحكومة الفرنسية عندما تتحول أزمة المالية العامة إلى زلزال سياسي

لم يكن حجب الثقة عن حكومة رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، مجرد مناورة برلمانية عابرة أو صراع سياسي تقليد

كان الحدث بمثابة كاشف صادم لأعمق الأزمات الهيكلية التي تواجه واحدة من أكبر اقتصادات العالم، ليرسم صورة قاتمة لفرنسا على مفترق طرق مصيري.

ما بدأ كخلاف حول أرقام الموازنة والعجز المالي، سرعان ما تحول إلى زلزال سياسي هز أركان الجمهورية الخامسة، كاشفًا عن علاقة مرضية بين الديمقراطية والانضباط المالي، ومطرحًا أسئلة وجودية عن مستقبل النموذج الفرنسي نفسه في قلب أوروبا.

جذور الأزمة أرقام صادمة وسقوف أوروبية تقبع جذور هذه الأزمة في أرقام مالية لا يمكن تفسيرها إلا بأنها “صادمة”.

فبينما يفرض الاتحاد الأوروبي سقفًا صارمًا للعجز المالي لا يتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وجدت فرنسا نفسها غارقة في عجز يقترب من 6%، بما يعادل نحو 170 مليار يورو.

ولم يكن الوضع أفضل حالاً فيما يخص الدين العام، الذي بلغ مستوى مذهلاً يقدر بـ 3.345 تريليون يورو، متجاوزًا الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 114%، في مؤشر خطير يضع باريس في مراكز متقدمة غير مرغوب فيها في نادي المدينين الأوروبيين.

هذه الأرقام لم تكن مجرد إحصاءات جافة على الورق؛ بل تحولت إلى كابوس يومي.

فـ “خدمة الدين” – أي الأموال المخصصة لسداد الفوائد فقط – أصبحت عبئًا خانقًا يلتهم الموارد المخصصة للصحة والتعليم والاستثمار في البنية التحتية، مما حرم الحكومة من أي هامش للمناورة وأبقاها في حلقة مفرغة من الاقتراض لسداد الديون السابقة.

وهناك المأزق الدستوري والسياسي هي ثلاثة خيارات مرّة فقد وجد الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه محاصرًا بخيارات جميعها مرهونة بالسياسة والاقتصاد في آن واحد:

أولها هو تشكيل حكومة توافقية و محاولة تشكيل ائتلاف حكومي هش مع أحزاب المعارضة (ربما اليمين التقليدي) حول “برنامج حد أدنى” يركز على خفض العجز تدريجيًا.

لكن هذا الخيار محفوف بصعوبات تحقيق إجماع بين أطراف ذات رؤى اقتصادية متضاربة.

والثاني هي انتخابات تشريعية مبكرة وهو خيار مقامرة كبرى.

ففي مناخ السخط الاجتماعي والغضب من النخبة الحاكمة، قد تشكل الانتخابات بابًا ملكيًا لصعود اليمين المتطرف (تجمع التكتل الوطني بقيادة مارين لوبان) أو اليسار الراديكالي، مما قد يفاقم الأزمة بدلاً من حلها.

والثالث حكومة تصريف أعمال مطولة وهو أسوأ السيناريوهات، حيث تظل الحكومة المستقيلة في منصبها لإدارة الشؤون اليومية فقط دون قدرة على إقرار موازنة أو إصلاحات جذرية.

هذا الشلل يرسل إشارات سلبية للأسواق المالية ويجعل فرنسا عرضة لخفض التصنيف الائتماني مرة أخرى.

ولهذا تداعيات من باريس إلى العالم فسقوط الحكومة الفرنسية ليس شأناً داخلياً فحسب، بل تتداعى آثاره عبر القارة والعالم.

على الصعيد الأوروبي يضعف عدم الاستقرار في ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو الثقة في العملة الموحدة برمتها، ويهدد مسار التعافي الاقتصادي الهش بالفعل .

كما يعيد رسم خريطة التوازنات فغياب فرنسا القوية يمنح ألمانيا نفوذًا أكبر ويفتح الباب لدول مثل إيطاليا وإسبانيا للمطالبة بدور أكبر.

على الصعيد الجيوسياسي تُعد فرنسا داعمًا رئيسيًا لأوكرانيا.

أي شلل في صنع القرار في باريس سيُترجم حتمًا إلى تباطؤ في قرارات التمويل والتسليح، وهو ما تتربص به موسكو لتقديمه كدليل على “إعياء” الدعم الأوروبي.

على الصعيد العربي والفرنسي من غير المتوقع إلغاء الصفقات الدفاعية الكبرى القائمة مع دول مثل مصر أو قطر أو الإمارات أو المغرب بسبب وجود عقود ملزمة.

ولكن، من المرجح جدًا أن يشهد إقرار صفقات جديدة تباطؤًا ملحوظًا، كما قد تشهد جداول التسليم والتمويل بعض التعديلات.

في المقابل، قد تزداد حماسة الشركات الفرنسية الكبرى للاستثمار في الأسواق العربية النفطية النشطة لتعويض الركود المحتمل في الداخل.

أما على مستوى الدور الدبلوماسي الفرنسي التقليدي في الملفات الساخنة ( لبنان، والأزمة التونسية، ومكافحة الإرهاب في الساحل الإفريقي)، فمن المتوقع أن تتراجع قدرة باريس على المبادرة والوساطة، مما يخلق فراغًا قابلاً لملأه من قبل فاعلين آخرين كتركيا أو حتى الصين.

إنها أكثر من مجرد أزمة حكومة في نهاية المطاف، يمثل سقوط حكومة بايرو جرس إنذار صارخًا ليس لفرنسا وحدها، بل لنموذج اقتصادي قائم على التمويل بالدين دون حدود.

لقد كشفت الأزمة أن “معضلة الموازنة” هي في جوهرها أزمة حكم وقيادة ورؤية.

فرنسا لم تعد تواجه مجرد عجز في المالية العامة، بل تواجه عجزًا في الثقة داخل نظامها السياسي، وتحدياً وجودياً حول قدرتها على التكيف مع متطلبات العصر ضمن إطار الاتحاد الأوروبي.

الأشهر القليلة المقبلة ستحدد ليس فقط من سيحكم فرنسا، ولكن أي نوع من فرنسا ستخرج من هذه العاصفة .

فرنسا منقسمة على نفسها، أو فرنسا قادرة على تجديد عقدها الاجتماعي والاقتصادي لمواجهة تحديات المستقبل.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى