
الرئيس الجليل محمد المنصف المرزوقي لم يكن في حياتي، مجرد محطة، بل كان منعطفًا غير مسار العمر، وجعل من الغربة وطنًا، ومن النضال مدرسة، ومن الحلم المستحيل واقعًا معاشًا.
أكتب اليوم عن محمد المنصف المرزوقي، الرئيس الذي لم تُغيّره السلطة، ولم تستطع كراسي الحكم أن تبدّل جوهره.
بقي المناضل كما هو، وظلّ الحقوقي قبل أن يكون السياسي، وبقي الإنسان الذي يرى في الكرامة تاجًا وفي الحرية عقيدة لا مساومة عليها.
الدكتور المنصف، في حياتي –لأكثر من عقد– لم يكن مجرد صداقة، بل كان تحقيقًا لحلم قديم كنت أظنه “الحلم المستحيل”.
فلطالما تمنيت منذ نعومة أظافري لو عاد الزمن لأعيش عقدًا واحدًا من حياتي، في كنف مصطفى النحاس، ملاك الوطنية المصرية، زعيم الحرية والديمقراطية الذي أحببته عن بُعد، ومن خلال حكايات تلميذه فؤاد باشا سراح الدين. لكن النحاس رحل وأنا طفل لا يتجاوز الرابعة.
كنت أقول لنفسي: “مستعد أن أضحي بما تبقى من عمري لأعيش عشر سنوات بصحبة النحاس باشا”
. وسبحان الله، تحقق الحلم، لا مع النحاس، بل مع ملاك الوطنية العربية: المنصف المرزوقي.
فلم أشعر يومًا بسعادة كتلك التي تغمرني وأنا أستمع إليه، وأتحاور معه. كان أبًا ومعلمًا وزعيمًا متواضعًا، يُخجلني صفاؤه، ويُدهشني تواضعه، ويُعلّمني أن المبادئ تظل دائمًا فوق كل اعتبار.
أول لقاء جمعني به كان في قصر قرطاج عام ٢٠١٤.
هناك طلبتُ منه أن يتولى رئاسة مجموعة من قيادات الربيع العربي في دول شتى، تحت لافتة المجلس العربي للدفاع عن الديمقراطية والربيع العربي. كنا نحتاج إلى بيت خبرة عربي يناقش ما تبقى من ثوراتنا، يدرس تحدياتنا المشتركة، ويصوغ رؤى للتحول الديمقراطي. كان اللقاء، لقاء نضال، مع رجل يعتلي مقعد رئيس الجمهورية، لكنه ظل يجلس في وجداننا كمناضل.
اللقاء الثاني كان أكثر قربًا من الروح.
في بيت بسيط بمدينة سوسة، برفقة توكل كرمان وعماد الدائمي ورفيقة دربي زوجتي دعاء. فتح لنا باب حديقة المنزل الصغيرة بنفسه، بلا حراس ولا مراسم. استقبلنا كأب، وأخ، وصديق. أدهشني أنه لا يلبس إلا ثوب التواضع. بيته الريفي كان كتابًا مفتوحًا: بساطة في المظهر، عمق في الفكر، وإنسانية لا تحدها ألقاب.
وطوال هذه السنوات، لم نختلف يومًا في قضية أو تقدير موقف أو حق.
ربما الخلاف الوحيد بيننا كان في توصيف “الليبرالية العربية”: أنا ابن قيم الليبرالية المصرية بخصوصيتها التاريخية، وهو ابن مغرب عربي له سياق آخر في فهم القيم الليبرالية. لكنه كان دائمًا يداوي هذا الخلاف بروح التسامح، معتبرًا أن التعدد ثراء لا خصومة.
محمد المنصف المرزوقي ظلّ حقوقيًا قبل أن يكون سياسيًا. طبيبًا يداوي الجسد، مفكرًا يداوي الوعي، مناضلًا يواجه الاستبداد، ثم رئيسًا يرفض أن يتخلّى عن قيمه. لم يبع نفسه للسلطة، ولم يتنازل عن ضميره، فخرج كما دخل: نقي اليدين، طاهر الجبين.
قليلون من يغادرون قصور الحكم بلا أوزار، وهو أحد هؤلاء النادرين.
اختار أن يخسر السلطة، لكنه لم يخسر نفسه. خسر الكرسي، لكنه ربح التاريخ. كان دائمًا حاضرًا في وجداني كقدوة وكصوت للحقيقة. وجوده كان يذكّرني أن السياسة لا تكون طاهرة إلا إذا حملها رجال بهذا النقاء، ولا تكون إنسانية إلا إذا قادها ضمير.
بالنسبة لي، تحقق حلمي (المستحيل) في صحبة هذا الرجل. حلم كنت أراه بعيدًا مثل النجوم، فإذا به يتحقق في كل جلسة حوار، وفي كل كلمة صادقة، وفي كل لحظة شعرت فيها أني أعيش صحبة “ناسك الحرية” في زمن عزّ فيه الزهد بالكرسي والسلطة. أحمد الله لنا في عمره وأثره.
وغدًا، أغادر حديثي عن الأب والرمز، لأفتح الصفحة على رفيقة المجلس العربي، شريكة الموقف السياسي، زهرة الثورة اليمنية التي حملت نوبل للسلام كوسام ثورة. إنها هي شقيقة الحلم التي منحتنا دوما وفي كل اللحظات الصعبة والمعتمة طاقة أمل: توكل كرمان.
أكتب عنهم اعترافًا بأثرهم في حياتي، وأكتب عن نفسي لأبقى وفيًا لهم.





