مقالات وآراء

حسن نافعه يكتب : مستقبل المنطقة بين التوحّش الصهيوني والصمود الفلسطيني

الهدف الحقيقي للكيان ليس نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، لأنه محدود التأثير ولا يشكّل أيّ درجة من الخطورة عليه، وإنما هدفه الحقيقي تسفيه فكرة المقاومة ذاتها، من خلال إذلال المقاومين والحطّ من كرامتهم.

لم تتكشّف بعد كلّ التداعيات المتوقّعة لما يجري في منطقة الشرق الأوسط منذ 7/10/2023. فحرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الكيان الصهيوني على غزة، رداً على الهجوم الذي قامت به حماس في ذلك اليوم، لا تزال مشتعلة، ولا يستطيع أحد التكهّن متى وكيف ستنتهي، ما يفسّر لماذا تبدو المحاولات الرامية لاستشراف مستقبل المنطقة عقب توقّف هذه الحرب نوعاً من الجري وراء سراب خادع.

ومع ذلك فبوسع أيّ باحث مدقّق أن يلاحظ أنّ التفاعل بين هذين الحدثين الكبيرين معاً، أي “طوفان الأقصى” و”حرب الإبادة”، خلال تلك الفترة التي امتدت حتى الآن لما يقرب من عامين، أماط اللثام عن حقيقتين أساسيتين؛ الأولى تتعلّق بالمدى الذي وصلت إليه وحشية الكيان الصهيوني، والذي بلغ أعلى مستويات الانحطاط والإجرام والقسوة، والثانية تتعلّق بالمدى الذي وصلت إليه معجزة الصمود الفلسطيني، والذي بلغ أعلى مستويات التفاني والجلد والإبداع.

وحشية الكيان لم تظهر فجأة لأنها، من ناحية، كامنة في البنية الأيديولوجية والسياسية للمشروع الصهيوني نفسه ولأنها، من ناحية ثانية، تجسّدت عملياً إبان حرب 1948/1949 التي شهدت سلسلة من المذابح البشعة ضدّ المدنيين العزّل، وعمليات تدمير ممنهج لمئات القرى والمدن العربية، وتهجير قسري لما يقرب من ثلثي الشعب الفلسطيني آنذاك.

وعلى الرغم من أنّ هذه الموجة المبكرة من التوحّش الصهيوني تسبّبت في نكبة كبرى للشعب الفلسطيني، إلّا أنّ الإلمام بتفاصيلها اقتصر على حفنة صغيرة من المؤرّخين والخبراء المتخصصين، حيث لم يكن بمقدور الرأي العام العالمي متابعة ما يجري في ميادين القتال بدقة في ذلك الوقت، مثلما يحدث في هذه الأيام. 

هذا فضلاً عن أنّ جميع القوى الكبرى المتحالفة والمنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بما فيها المعسكر الاشتراكي، كانت متعاطفة بشدة في ذلك الوقت مع فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بسبب “المحرقة” التي ارتكبها النظام النازي. ولأنه توحّش كامن في بنية الأيديولوجية الصهيونية نفسها، فقد راحت موجاته تتوالى تباعاً بوتيرة متصاعدة، وبالتالي لم يقتصر على المرحلة التأسيسية للكيان الصهيوني. 

صحيح أنه كان بمقدور الأخير إخفاء وجهه القبيح وراء ادّعاءات زائفة، من قبيل أنه “واحة متفرّدة للديمقراطية في صحراء الاستبداد العربي”، غير أنّ القناع بدأ يتكشّف تدريجياً إلى أن سقط نهائياً في أعقاب “طوفان الأقصى” الذي اتخذ منه الكيان ذريعة لشنّ حرب إبادة وتطهير عرقي وتجويع للشعب الفلسطيني. فقد بدأت قطاعات واسعة جداً من الرأي العام العالمي تدرك بوضوح منذ ذلك الحين أنّ الأيديولوجية الصهيونية هي بطبيعتها تمييزية وعنصرية، وأنّ الكيان الذي أفرزته لا يمكن أن يكون إلّا استيطانياً وتوسّعياً. 

وبالتالي لن يتورّع مطلقاً عن انتهاك أحكام القانون الدولي وارتكاب أبشع الجرائم في حقّ الإنسانية، وهو ما ثبت بالدليل القاطع من خلال:

  •  1-أوامر أصدرتها محكمة العدل الدولية. 
  • 2-قرارات أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية. 
  • 3-تقارير أصدرتها عشرات المنظّمات الدولية الحكومية وغير الحكومية العاملة في مجال حقوق الإنسان والإغاثة الدولية.
  •  4-شهادة فنية احترافية أصدرتها مؤخّراً “الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية”، أهمّ لجنة خبراء في هذا المجال على مستوى العالم.

مقاومة الشعب الفلسطيني لهذا التوحّش لم تكن أمراً طارئاً. فقد انطلقت منذ أن وطئت أقدام الاحتلال البريطاني أرض فلسطين إبّان الحرب العالمية الأولى واستمرت من دون انقطاع. فقد اندلعت ثورات شعبية فلسطينية عديدة خلال فترة الانتداب، كثورة البراق (1929) والثورة الكبرى (1936-1939)، وتأسست تباعاً بعد النكبة حركات وفصائل مقاومة، سياسية وعسكرية، راحت تمارس أنشطتها وعملياتها ضدّ الاحتلال الصهيوني إما من داخل الأرض الفلسطينية نفسها أو من الدول المجاورة. 

صحيح أنّ القرار الفلسطيني ظلّ محكوماً لفترة طويلة بأوضاع عربية ودولية بالغة التعقيد، غير أنّ استقلالية القرار الفلسطيني ظلّ مطلباً وطنياً على الدوام. وهكذا راحت الفصائل والتنظيمات التي تصدّت لقيادة النضال الفلسطيني تحاول، بقدر ما أتيح لها من حرية الحركة، التصدّي للمخططات الصهيونية التي استهدفت سلب أرضه وطمس هويته.

ولأنّ الساحة الفلسطينية لم تشهد في تاريخها كلّه معركة تماثل تلك التي خطّطت لها ونفّذتها حماس يوم 7/10/2023، يمكن القول إنّ “طوفان الأقصى” شكل نقطة تحوّل كبرى في مسار القضية الفلسطينية، بصرف النظر عن شكل ومضمون الجدل الدائر حول جدواه. 

وأياً كان الأمر، فقد ثبت الآن بما لا يدع أيّ مجال للشكّ أنه كان حدثاً كاشفاً، من ناحية، عن طبيعة الأهداف التي يسعى المشروع الصهيوني لتحقيقها، ولما يتمتّع به الشعب الفلسطيني من طاقات نضالية هائلة، من ناحية أخرى. لذا يمكن القول إنّ ما جرى للمنطقة وفيها منذ “طوفان الأقصى” أثبت ما يلي: 

  • 1-تصميم الشعب الفلسطيني على استعادة حقوقه المغتصبة مهما كانت التضحيات، حتى لو تخلّى عنه الجميع واضطر للاعتماد على قواه الذاتية وحدها. 
  • 2-انفلات الأطماع الصهيونية التي لم تعد قاصرة على الأراضي الفلسطينية وحدها، وانفتاح شهيتها لتشمل قضم أجزاء متباينة المساحة من أراضي جميع الدول العربية المجاورة، بما فيها السعودية. 
  • 3-حرص الكيان الصهيوني على تهيئة الأوضاع لمرحلة “ما بعد سايكس-بيكو”، من خلال سعيه الحثيث لتفتيت المنطقة وإعادة تقسيمها استناداً إلى أسس عرقية وطائفية وقبليّة، وهو ما توحي به مجمل سياساته وتحرّكاته الحالية على الساحتين السورية واللبنانية.

تداخل التفاعلات الناجمة عن حالة التوحّش الصهيوني، من ناحية، مع التفاعلات الناجمة عن حالة الصمود الفلسطيني، من ناحية أخرى، يطرح أمام دول المنطقة تحدّيات جديدة وغير مسبوقة. فمع التسليم بأنّ وقف إطلاق النار ينبغي أن يحظى بأولوية قصوى، نظراً للحاجة الماسّة لحماية سكان قطاع غزة من مخاطر التهجير القسري ومن أخطار الإبادة الجماعية، قتلاً أو تجويعاً، إلّا أنّ ذلك لا ينبغي أن يتمّ على حساب المقاومة وسلاحها الذي يطالب الكيان الصهيوني بنزعه.

فعلى الجميع أن يدرك أنّ الهدف الحقيقي للكيان ليس نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، لأنه محدود التأثير ولا يشكّل أيّ درجة من الخطورة عليه، وإنما هدفه الحقيقي تسفيه فكرة المقاومة ذاتها، من خلال إذلال المقاومين والحطّ من كرامتهم، وهو ما لا ينبغي السماح بحدوثه قط. لذا يتعيّن ربط موضوع تسليم سلاح المقاومة بالدولة الفلسطينية، أي بخريطة طريق ملزمة تفضي إلى تأسيس دولة فلسطينية مستقلة خلال فترة زمنية معقولة. 

ولأنّ الحكومة الإسرائيلية الحالية لن توافق مطلقاً على خطوة من هذا النوع، ينبغي على الدول العربية والإسلامية ألّا تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الصلف وألّا تتردّد في ممارسة أقصى قدر من الضغوط على هذه الحكومة المارقة.

فجميع هذه الدول تملك أوراق ضغط عديدة وفعّالة، أقلّها يبدأ بالتهديد بسحب السفراء ثم يتصاعد إلى أن يصل إلى حدّ القطع الفعلي والكامل لكلّ أنواع العلاقات مع الكيان، وذلك بالتوازي مع إعلان يلزم الجميع بعدم تطبيع العلاقة مع الكيان إلّا بعد اعتراف الأخير بدولة فلسطينية وقيامها على أرض الواقع.

على صعيد آخر، يبدو واضحاً أنّ الدول العربية والإسلامية لم تدرك بعد أنها جميعاً أصبحت تقع الآن في قلب دائرة الاستهداف الصهيوني، وبالتالي معرّضة إما لوقوع اعتداء مباشر من جانب كيان يتباهى علناً بأنه يسعي لإقامة “دولة كبرى” في المنطقة، ما يعني توافر نيّة مضمرة للاستيلاء على مساحات جديدة من أراضي الدول العربية المجاورة، وإما للتجزئة والتفتيت بسبب كيان يصرّ على إثارة النعرات الطائفية والقبلية في المنطقة ويرى في تفتيتها ضماناً لأمنه المطلق.

ولأنّ الدول العربية والإسلامية لن تستطيع مواجهة كلّ هذه التحدّيات والمخاطر فرادى، فقد حان الوقت للتفكير جدّياً في بناء هياكل قوية للأمن الإقليمي، وعلى جميع المستويات، ما يلقي على عاتق دول مثل مصر والسعودية وإيران وتركيا مسؤوليات خاصة على هذا الصعيد. 

لدى نتنياهو رؤية استراتيجية وجيوسياسية واضحة للمنطقة يسعى لوضعها موضع التنفيذ. فهو لا ينظر إلى ما يجري في قطاع غزة كقضية منفصلة، وإنما يربطه عضوياً بما يجري في المنطقة ككلّ.

لذا ينبغي على جميع دول المنطقة أن تدرك أنه يريد القضاء على جميع فصائل المقاومة في المنطقة، وليس حماس وحدها، واستئصال فكرة المقاومة من جذوها، والأرجح أنه لن يكتفي بذلك وإنما سيسعى أيضاً لتغيير النظام في إيران بكلّ الوسائل المتاحة. وإذا نجح في تحقيق تلك الأهداف، وهو على يقين من أنه سينجح، فستصبح المنطقة كلّها طوع بنانه، وسيقترب كثيراً من تحقيق حلمه الكبير في أن يصبح ملكاً على “إسرائيل الكبرى”، بعد أن يتمكّن من هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث على أنقاضه.

لقد وصل التوحّش الصهيوني إلى ذروة غير مسبوقة، وهو ما تأكّد بوضوح تامّ عقب الهجوم العسكري يوم الثلاثاء الماضي على قطر، الدولة العربية التي تؤدّي دور الوسيط وتستضيف على أراضيها أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الخارج، ما يفرض على قادة الدول العربية والإسلامية كسر حالة الصمت المريب التي تغشاهم منذ فترة طويلة، وإدراك أنّ مقاومة هذا التوحّش لم تعد خياراً وإنما أصبحت ضرورة لا مفرّ من التمسّك بها، وإلّا خضعت المنطقة بكاملها للهيمنة الصهيونية، وبأسرع مما قد يتصوّره البعض.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى