مقالات وآراء

ناجي عبد الرحيم يكتب: التحوّل الاستراتيجي في منظومتي مجلسي التعاون الخليجي العربي.. من الدفاع إلى الحرب (دول الخليج والشرق الأوسط على أبواب اختبار سيادة)

استهلال

لم تكن معاهدات الدفاع في تاريخنا الحديث مجرّد بنود تُتلى في المؤتمرات ثم تُطوى في دفاتر الأرشيف، بل كانت إشارات إلى تحوّلات كبرى في وعي الدولة العربية بذاتها وموقعها، فحين اجتمعت الحكومات العربية في 1950 لتوقيع معاهدة الدفاع المشترك كان الأمل أن يتحوّل التضامن السياسي إلى قوة تحمي حدود الأمة، لكن الواقع أثبت أن النص وحده لا يخلق القدرة، ومع 1984 وولادة درع الجزيرة دخل الخليج طورًا جديدًا؛ طور بناء الذراع العسكرية المشتركة، غير أن التجربة الموازية في مجلس التعاون العربي 1989 تعثّرت سريعًا تحت وطأة الصراع الإقليمي، ثم جاء عام 2000 ليشكّل محطة فاصلة، إذ تحوّل الخطاب الخليجي من التنسيق إلى الالتزام عبر اتفاقية الدفاع المشترك التي أرست قاعدة “الاعتداء على واحد هو اعتداء على الجميع”
واليوم، وبعد عقدين من تلك المحطة، تتغير طبيعة التحديات؛ البحر الأحمر أصبح مسرحًا لحرب لوجستية، الفضاء السيبراني ساحة لا تقل خطورة عن الميدان العسكري، والموازنات العامة تعكس واقعًا جديدًا حيث يزاحم الدفاع بنود التنمية، وهكذا ننتقل من منطق الدفاع الذي يردّ العدوان إلى منطق الحرب الذي يفرض موازين القوة، إنه تحوّل لا يُقرأ بلغة السلاح وحده، بل بلغة الاقتصاد والسياسة والعقد الاجتماعي، حيث تتحول الموارد من حماية الاستقرار إلى صناعة معادلاته

استدلال
التسلسل التاريخي يوضح بجلاء هذا التحوّل المتدرّج
1950 — معاهدة الدفاع العربي المشترك أطلقت وعدًا كبيرًا دون أداة تنفيذية
1984 — درع الجزيرة مثّل أول محاولة خليجية جادّة لبناء قوة مشتركة ميدانية
1989 — مجلس التعاون العربي جمع مصر والعراق والأردن واليمن الشمالي لكنه تعثّر سريعًا بعد غزو الكويت
2000 — قمة المنامة أقرّت اتفاقية الدفاع المشترك فانتقلت دول الخليج من التنسيق إلى الالتزام المؤسسي
2013 — قرار إنشاء القيادة العسكرية الموحّدة فتح الباب لدمج القرار العملياتي وتوحيد الصورة الاستراتيجية
2023–2024 — البحر الأحمر يشتعل بالهجمات، والتحالفات البحرية تتوسع، والرؤية الأمنية الخليجية الجديدة تعلن أن الأمن لم يعد جغرافيًا فقط، بل سيبرانيًا ومناخيًا واقتصاديًا أيضًا
2025 — التوطين الصناعي العسكري يتقدم بخطوات واسعة، والسعودية والإمارات تبنيان قدرة إنتاجية وتصديرية تعطي الخليج أوراق قوة جديدة

استفهام
هل نحن أمام مرحلة دفاع وقائي أم أمام حرب معلنة بأدوات متعددة، هل يمثل التوسع الصناعي العسكري تحررًا من الاعتمادية أم ولادة لاعتمادية جديدة في شكل آخر، هل سيبقى الأمن العربي في إطاره الخليجي فقط، أم يتجاوز ليبني جسرًا نحو تعاون عربي أوسع بعد أن سقط مجلس التعاون العربي في امتحانه الأول
وأي مستقبل ينتظر المنطقة إذا تحوّل البحر الأحمر إلى ممر صراع دائم والفضاء السيبراني إلى ساحة استنزاف بلا جبهات

استدراك


التحوّل لا يأتي بلا أثمان ففي مصر مثلًا بأيدي العسكر ..انعكس الانقلاب العسكري والتحول من حماية البلاد إلى حماية الحاكم وصراع السلطة العسكرية على اقتصاد البلاد فأسقط الاقتصاد المدني وسقطت موارد البلاد باضطراب سلاسل الإمداد على رغيف الخبز وعلى الموازنة التي ارتفعت مخصصات دعم الغذاء فيها، بينما بلغ التضخم مستويات تاريخية، وفي الخليج يزاحم الإنفاق الدفاعي مخصصات التعليم والصحة، ويطرح سؤال القيمة مقابل المال، وفي البحر الأحمر كشفت الهجمات أن بنية التجارة العالمية قابلة للتعطيل بكلفة منخفضة وأثر عالمي واسع، ما يفرض على المنطقة أن تحصّن مواردها وأن تبني مظلات سيبرانية ومالية لا تقل شأنًا عن المظلات الجوية والبحرية.

استنتاج

من مسار سبعين عامًا يمكن استخلاص ثلاث قواعد كبرى
الاعتمادية الأمنية على الخارج كانت ولا تزال ثابتًا لكن الخليج بدأ يكسرها بخطوات تصنيع محلية
القيود البنيوية على الدول صغيرة الحجم جعلتها عُرضة لضغوط كبرى ما لم تدخل في تحالفات مؤسسية متماسكة
الحاجة إلى تماسك مؤسسي لم تعد خيارًا سياسيًا، بل شرطًا للبقاء؛ التجربة الخليجية نجحت نسبيًا لأنها طوّرت ذراعًا عسكرية مشتركة، فيما التجربة العربية تعثرت لأنها اكتفت بالنصوص دون بناء مؤسسات.

استشراف

حتى 2030 تتوزع الاحتمالات بين أربع سيناريوهات
دفاع وقائي متقدّم عبر تكامل قيادة العمليات الجوية والبحرية والصاروخية في منظومة موحّدة
حرب رمادية وسيبرانية تعيد تعريف الأمن الاقتصادي والمالي بقدر ما تعيد تعريف الأمن العسكري
قدرات ضربات دقيقة محدودة توازن بين الردع وتجنّب الانزلاق إلى حرب شاملة
تعاون عربي عملي جديد يبنى على مسار القاهرة–بغداد–عمان لكنه يضيف بُعدًا دفاعيًا ومؤسساتيًا لا يكتفي بالاقتصاد وحده

في سطور

الانتقال من الدفاع إلى الحرب مسار تاريخي متدرّج لا قرارًا عابرًا، يبدأ بمعاهدة عربية في 1950، يمر بولادة درع الجزيرة 1984، يتعثر في مجلس 1989، يشتد في اتفاقية 2000، يتوسع في قيادة 2013، ويبلغ ذروته في صدمات البحر الأحمر 2023 وما بعدها، وهو انتقال يحدد ما إذا كانت المنطقة لاعبًا يفرض شروطه أم ملعبًا يتقاذفه الآخرون.

في كلمات

الأمن يُشيَّد بالدولة المدنية التي تضع الإنسان في مركز العقد الاجتماعي، وتترسخ بحكومات تكنوقراطية تحكمها الكفاءة لا العاطفة، وينمو باقتصادٍ تكنواقتصادي يجعل التجارة قوة إنتاجية لا تبعية استهلاكية، ويُصان بجيشٍ تكنوعسكري يجمع بين التقنية والإرادة، وبين الروح والسيف، فيغدو الذود عن الأرض والعرض والموارد مسؤوليةً جامعة، ودفاعًا مشروعًا، وشراكةً مع الجوار شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا.
ومن جمع هذه الأعمدة كان سيد نفسه لا تابعًا لغيره، وصاحب إرادة لا أداة، وقيادة لا حكاية يطويها النسيان … والأيام دول.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى