مقالات وآراء

د. عدنان منصور يكتب : غزة تحتضر أمام العالم…

لم يشهد العالم إجراماً وتطهيراً عرقياً منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وحتى اليوم كالذي تشهده غزة على يد دولة الإرهاب الإسرائيليّة، وعلى مرأى من الأمم المتحدة، والمجتمع الدوليّ، والعالمين العربيّ والإسلاميّ، والمنظمات والتكتلات الدوليّة!

فلتسقط بعد اليوم كلّ هذه الهيئات الدوليّة والأمميّة، والتكتلات الإقليميّة، والقمم العربيّة والإسلامية والدولية التي أثبتت فشلها وعجزها، وخيبتها، وتقاعسها عن إنقاذ شعب يبيده مجرمون، متوحّشون، عنصريّون اختزنوا في داخلهم عشقهم، وتعطشهم للدماء، والقتل والإبادة، أكان هذا التقاعس أو الإحجام ناجماً عن الخيار أو الضغوط أو الحسابات الضيّقة.

شعب أسطوريّ ما بعده شعب، سيكمل بعد ثلاثة أسابيع عامه الثاني وهو يتعرّض لأكبر مأساة إنسانيّة، وجرائم وحشيّة عنصريّة، وإبادة جماعيّة أسفرت حتى الآن عن أكثر من 200 ألف شهيد وجريح فلسطينيّ، عدا عن ذلك هدم جيش الاحتلال الإسرائيليّ لأكثر من 80% من مدن وقرى ومخيّمات القطاع، وتسويتها بالأرض.

كم هو أحمق ومغفل الذي يثق بعد اليوم بالأمم المتحدة وبمجلس الأمن الدوليّ المصادَر من قبل إمبراطوريّة القهر والاستبداد التي لم يرفّ جفنها يوماً، وهي تشاهد الآلة العسكريّة “الإسرائيلية” تبيد وتقتل وتدمر، تستهدف مباشرة وعن عمد المدنيين العزل من أطباء ومسعفين، وصحافيّين، وأطفال، ونساء وشيوخ، ودور عبادة، ومستشفيات وجامعات، وتجمّعات بشرية، ومراكز أمميّة إنسانيّة، فيما تثبت وتظهر إمبراطورية القهر للعالم كله زيف شعاراتها، ومبادئها، و”حرصها الشديد” على حقوق الإنسان، وحريّة الشعوب في تقرير مصيرها.

ما كانت “إسرائيل” لتقوم بمجازرها الهمجيّة وإبادتها للغزاويين، لولا الغطاء والدعم الأميركيين لها ولمجرمي الحرب المدانين من العدالة الدولية. لم نعد بعد اليوم نصدّق، ونأخذ بالمواثيق والقوانين الدولية، ولا بالمنظمات الأمميّة، ولا بالشعارات والبيانات التي تصدر عن القمم والمؤتمرات، والرؤساء والزعماء، الذين لم يستطيعوا لجم الوحش الكاسر ووقفه عند حدّه!

نتنياهو يريد السير بعيداً في هولوكوست غزة، وما العدوان الإسرائيليّ القذر على قطر إلا لتقويض المفاوضات، في الوقت الذي بدأ فيه جيش الإرهاب الانقضاض على ما تبقى من غزة، ويستعدّ لارتكاب أفظع المجازر بحقّ الغزاويّين، وتهجير مَن يتبقّى منهم.

ما الذي فعلناه ضدّ “إسرائيل” على عدوانها المتمادي على دول المنطقة وآخرها قطر، غير التصريحات التي تدين، وتندّد، وتستنكر، وتشجب، وووو…؟! أبِالتصريحات الطنانة الرنانة نحمي دولنا، أم بالقواعد العسكرية الأجنبية نحفظ سيادة بلداننا؟!

نحن لا نلوم المنظمات الدوليّة فقط، وإنما نلوم في الدرجة الأولى العالمين العربي والإسلامي، أصحاب العلاقة المباشرة، قومياً، ودينياً، وأخلاقياً، وإنسانياً، والذين يشاهدون احتضار غزة ولفظ أنفاسها الأخيرة أمام أعينهم وجبنهم، وتخاذلهم عن إنقاذها وكأنّ شيئاً لم يكن.

سيسجّل التاريخ عار أمة ارتضت بالذلّ والهوان، أمّة وقفت مكتوفة الأيدي أمام جبروت عدو قاتل مدمّر، يكتفي قادتها بالتنديد، والشجب، والإدانة، والقلق، والإعراب والتحذير، والاستهجان، والترحيب، والمناشدة، والمطالبة، والرفض، وبكلّ المفردات السياسيّة المتكرّرة على الدوام، والتي لا يعيرها العدو ولمطلقيها أيّ قيمة، او اعتبار أو أهميّة أو احترام.

ألا تستحقّ غزة من العرب وزعمائهم وقفة عز وشجاعة تعبّر عن كرامة أمة، وعن نخوتهم وشرفهم وقيمتهم تجاه شعوبهم وتجاه العالم كله؟! ما الذي فعلوه لإنقاذ غزة من براثن القتلة، فيما شعوب العالم مصابة بذهول جراء المواقف العربية والإسلامية الهزيلة التي يتندّر بها أحرار العالم، فيما شعوبه تنتفض في كلّ قارة من أجل غزة، وهي تندّد بسياسة حكوماتها، وتطالبها بتجميد علاقاتها مع دولة العدوان والاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي تكبّل فيه أفواه معظم الشعوب العربيّة على أيدي الصامتين، الخانعين، المتخاذلين، السائرين في ركاب واشنطن وتل أبيب!

غزّة بحاجة إلى قمة عربيّة عاجلة، تقطع العلاقات الدبلوماسيّة أو تخفّض مستواها على الأقلّ مع العدو، ووقف العلاقات التجارية، والاقتصادية، والسياحية، والاستثمارات الإسرائيلية، ووقف التأشيرات للإسرائيليين، وتفعيل المقاطعة العربيّة ضدّ الكيان، فمن يجرؤ على اتخاذ قرارات كهذه؟!

أيّ عار سيلحق بالعالم العربي، عندما سيسجّل التاريخ، أنّ عالماً عربياً يضمّ 22 دولة، وتعداد سكانه 500 مليون نسمة، وإنفاقه العسكري السنوي يزيد عن 150 مليار دولار، وناتجه القومي يفوق 2 تريليون و500 مليار دولار، لا يستخدم عن عمد، قدراته الكبيرة، لفك حصار التجويع عن شعب غزة، فيما علاقات معظم دوله تنسّق مع “إسرائيل” وتطبّع، وتنمّي علاقاتها التجارية والاقتصادية والسياحية، والأمنية والاستخبارية، وعند الحاجة تزوّد دولة الاحتلال بما تحتاجه من سلع وخدمات!

ألا يحقّ لنتنياهو أن يتباهى بعلاقات “إسرائيل” مع دول عربية، لم يتصوّر يوماً أنها ستكون لكيانه دولاً “صديقة” و”شقيقة” داعمة له ولـ”إسرائيل”، بعد أن أصبحت هذه الدول ملاذاً للإسرائيليين، يسرحون ويمرحون فيها دون قيد او شرط بـ “البركات الابراهيميّة”…

عذراً يا غزة، وعذراً يا شعب فلسطين الأسطورة الذي علّمت قادة وشعوب العالم كله، كيف يُصان الشرف وتُحفظ الأوطان، وتُحمى الديار، وكيف يدافع عن الأرض حتى النفس الأخير. كنت مثالاً حياً، ونموذجاً فريداً في مقاومتك وبسالتك، وتضحياتك من أجل الحرية، والعيش بعزة وإباء، لا تعرف حياة الذلّ والركوع للطغاة، التي أدمَنَ عليها الآخرون في أمتك، والذين أغمضوا عيونهم عن أفظع وأبشع محرقة ومجزرة في العصر الحديث، وصمّوا آذانهم كي لا يسمعوا بكاء الرضع، وأنين الأطفال، وصيحات المعذبين، وصراخ الجائعين!

يعلمُ العرب يا غزة، وتعلم معهم دول العالم الإسلامي أنك تحتضرين، تناديهم، تستغيثين بهم، تناشدين ضمائرهم الغائبة، توخزين جلودهم المحنطة ولا مَن مستجيب!

لك الله يا غزة بعد أن تركك العرب فريسة لوحش كاسر لم يشهد العالم مثيلاً له، وتركوك وحدك كما ترك أشقاء يوسف أخاهم بعد أن رموه في الجبّ. ها هو التاريخ يا غزة الضحية يتجدّد بك ومعك، وأنت اليوم مرميّة في الجبّ، لا شقيق ينقذك، ولا قافلة عربية او إسلامية تمرّ بقربك لتنتشلك!

أمام أعين العرب، وطغاة العالم، حاصروك يا غزة، وكبّلوك، يتفرّجون على صلبك، بعد أن وضعوك تحت المقصلة، منهم يهوذا، ومنهم أبو جهل، وأبو لهب، يتلذّذون بقتلك، وأنت تئنّين، تنظرين إليهم من بعيد بطرفة عين، وهم خلف زجاج القصر، يستمتعون بصلبك، فيما تلفظين الأنفاس الأخيرة، تمقتيهم، تبصقين في وجوههم المحنّطة، علّك تجدين فيهم ما تبقى لهم من ذرة شرف، ونخوة وإحساس وإباء!

لا تستغيثي يا غزة بفرسان الأمة، فقد غابوا عن الساحة وانقرضوا، ولم تبقَ فيها إلا الأفراس، فيما شعوب الأمة تائهة تبحث خلف السراب من بعيد عن الفوارس والرجال…!

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى