
تشهد مصر خلال الفترة الحالية موجة إعلامية شبه يومية من وزارة الصحة للترويج لبدء تنفيذ التوجيهات الرئاسية؛ ونشر مراسم توقيع خمس بروتوكولات تعاون بين وزارتي الصحة والتعليم العالي، وصندوق التعويض عن مخاطر المهن الطبية، باعتبارها خطوة تعكس التزام الدولة بتعزيز بيئة العمل للأطباء والفرق الطبية ورفع كفاءتهم المهنية، إلى جانب تحسين البنية التحتية لسكن الأطباء، بما يسهم في توفير بيئة عمل داعمة ومستدامة.
حاجة أعضاء الفريق الطبي وأسرهم إلى التعويضات والرعاية المجتمعية بعد زيادة الوفيات خلال وباء كورونا عام 2020:
وهنا يجب عرض تداعيات الأمور منذ بدايتها ، حيث داهم وباء كورونا ( كوفيد 19) مصر في بداية عام 2020 ، ولم تكن هناك جاهزية طبية حيث كانت مصر تشغل المرتبة 97 عالميا ، والسادسة عربيا في مؤشر الجاهزية لمواجهة الأزمات ، وكان سبب ضعف الجاهزية يرجع إلى ثلاثة عوامل تشمل : ضعف التمويل الصحي الحكومي ، وتدنى القدرة على الاستجابة السريعة والطوارئ، ومحدودية النظام الصحي مقارنة بحجم السكان ، ونظرا للارتفاع نسبة الوفيات بين الأطباء وباقى أعضاء الفريق الطبي فقد قامت نقابة الأطباء بطلب للحكومة بأن يتم شمول “الجيش الأبيض ” من أعضاء الفريق الطبي بخدمات ومزايا يقدمها القانون رقم 16 لسنة 2018 والخاص بضحايا العمليات من الجيش والشرطة ، ولكن الطلب قوبل بالرفض التام من الدولة ؛ وسط قصور واضح في القدرات المالية للنقابات المهنية في توفير الدعم والتعويض المناسب لأسر الضحايا باعتبارهم شهداء الواجب في مواجهة مخاطر الوباء وحماية المواطنين .
قرار جمهوري بإنشاء صندوق مخاطر المهن الطبية بموجب قانون 184 لسنة 2020؛ بتمويل ذاتي:
ينص القانون رقم 184 لسنة 2020، بإنشاء صندوق مخاطر المهن الطبية على أن تكون له الشخصية الاعتبارية، ويتبع رئيس مجلس الوزراء، ويكون مقره الرئيسي بالقاهرة الكبرى. ويهدف الصندوق إلى تعويض المستفيدين منه عن الوفاة أو الإصابة التي ينتج عنها عجز كلي أو جزئي، وذلك نتيجة مزاولة المهنة على النحو الذي يحدده النظام الأساسي للصندوق، وتقديم الرعاية الاجتماعية لأسر أعضائه، بالإضافة إلى أي مزايا أخرى يعتمدها مجلس إدارة الصندوق، وذلك كله وفقا للملاءة المالية التي تحددها دراسة اكتوارية من خبير اكتوارية معتمد.
ونصت المادة السادسة من القانون على أن يضم الصندوق في عضويته كلا من:
1- أعضاء المهن الطبية المخاطبين بأحكام قانون تنظيم شئون أعضاء المهن الطبية العاملين بالجهات التابعة لوزارة الصحة والسكان من غير المخاطبين بقوانين أو لوائح خاصة المشار إليه.
2- الأطباء البشريين وأطباء الأسنان والأطباء البيطريين والصيادلة وممارسي وأخصائيي العلاج الطبيعي والتمريض العالي وخريجي كليات العلوم من الكيميائيين والفيزيقيين وهيئات التمريض الفنية والفنيين الصحيين العاملين بالمستشفيات الجامعية والإدارات الطبية بالجامعات والمستشفيات التابعة لجامعة الأزهر والمؤسسات العلمية العاملة في القطاع الصحي من غير المخاطبين بقوانين أو لوائح خاصة.
3- أعضاء المهن الطبية الخاضعين للقانون رقم 115 لسنة 1993 المشار إليه.
4- أطباء الامتياز بكليات الطب.
ووفقا للقانون، تتكون موارد الصندوق بتمويل ذاتي من المشاركين فيه؛ وذلك على النحو التالي:
خصم نسبة مئوية من بدل مخاطر العدوى المقرر لأعضاء المهن الطبية حسب القانون 14 لسنة 2014 والمعروف بقانون “الكادر”، وخصم نسبة مئوية من المكافأة المقرة لأطباء الامتياز، وخصم نسبة من رسوم تراخيص إنشاء العيادات والمراكز الطبية والمكاتب العلمية الصحية، ونسبة من رسوم تراخيص مزاولة المهن الطبية-، إضافة الى عائد استثمار أموال الصندوق، وأية تبرعات أو هبات يقبلها مجلس الإدارة وتفق وأغراض الصندوق والاشتراكات المقررة عن الفئات الأخرى التي تضم لعضوية الصندوق.
وتعد أموال الصندوق أموالا عامة، ويكون للصندوق موازنة مستقلة، تعد وفقا للقواعد المقررة للموازنة العامة للدولة، وتخضع موازنة الصندوق لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات. وتعفي أموال الصندوق من جميع أنواع الضرائب والرسوم، وتخصم التبرعات الموجهة للصندوق من الوعاء الضريبي للمتبرعين طبقا للنسب المحددة قانونا. ويوجد مجلس إدارة للصندوق برئاسة وزير الصحة، وقد صدر قرار رئيس الوزراء بأن يكون د. أسامة عبد الحي نقيب الأطباء عضوا ممثلا للمهن الطبية بداية من عام 2025 ولمدة أربع سنوات.
وزير الصحة يعلن عن بروتوكولات برامج وأنشطة حكومية ممولة من الصندوق على خلاف أهدافه الواردة بالقانون:
أولا: بروتوكول الصرف على الدراسات العليا البورد المصري للأطباء من أموال صندوق التعويضات، من خلال التعاون بين الصندوق والمجلس الصحي المصري، وأوضح المتحدث الرسمي لوزارة الصحة والسكان، أن الصندوق قام بسداد كامل رسوم امتحان البورد المصري عن الجزء الأول (دورة أغسطس2025)، لعدد 1203 دارس، مؤكداً استمرار تعزيز سبل الدعم للأطقم الطبية، في إطار تنفيذ توجهات القيادة السياسية بتحسين بيئة العمل في القطاع الطبي، وتعزيز الاستثمار في الموارد البشرية، وتعزيزاً لجهود الدولة الرامية إلى دعم الأطقم الطبية وتحسين أوضاع العاملين في القطاع الصحي.
ثانيا: بروتوكول تطوير المنشآت الصحية الحكومية بما تتضمنه في عدد من الوحدات الصحية بمحافظة بني سويف، ومستشفيات جامعات القاهرة، الزقازيق، وعين شمس، بهدف توفير بيئة إقامة متطورة تتماشى مع المعايير الحديثة، وتزويدها بالمستلزمات الضرورية لضمان الراحة والأمان للأطقم الطبية، وتحسين استراحات الأطباء وغيرهم من العاملين بالقطاع الصحي،
ثالثا: بروتوكول التعاون مع قطاع تنمية المهن الطبية لتنظيم ورش عمل وبرامج تدريبية متخصصة في التخصصات الفنية والإدارية، مع منح دبلوم مهني معتمد من المجلس الصحي المصري في مجالات سلامة المرضى وإدارة مخاطر الرعاية الصحية، بالإضافة إلى دعم استقدام خبراء دوليين ومحليين لتدريب أعضاء الصندوق من الأطباء وكوادر التمريض.
رابعا: بروتوكول بتدريب طلاب امتياز كليات الطب البشري في منشآت الرعاية الأولية التابعة لمديريات الشئون الصحية بالمحافظات، من خلال التعاون بين الصندوق والمجلس الصحي المصري، لتعزيز مهاراتهم المهنية.
اعتماد البروتوكولات التي تستنزف رصيد الصندوق يعنى تخلى وزارة الصحة عن التزاماتها الدستورية والقانونية والمالية:
أولا: إنفاق الصندوق على الدراسات العليا للأطباء مخالفة لقانون انشاء الصندوق، كما أنها تعد مخالفات لعدة قوانين أخرى؛ حيث أن القانون رقم ١٣٧ لسنة ٢٠١٤ ألزم جهات العمل لأعضاء المهن الطبية أو وزارة الصحة بتحمل رسوم الدراسات العليا من مواردها الذاتية، وأضاف قرار وزير الصحة والسكان رقم ٣٨٧ لسنة ٢٠١٨ بأنه في حالة عدم وجود موارد ذاتية في جهات العمل الأصلية، تتحمل وزارة الصحة والسكان مصروفات ورسوم الدراسات العليا لأعضاء المهن الطبية.
ثانيا: بروتوكول تطوير منشأت صحية: تم نشر تصريحات د. أحمد حسين منسق “حملة مصيرنا واحد”، عضو مجلس نقابة الأطباء السابق يشير فيها إلى أن تطوير المنشآت الصحية من بنود صرف الباب السادس من الموازنة العامة لوزارة الصحة والسكان، وأن الصرف على المنشآت الحكومية من صندوق التعويضات عن مخاطر المهن الطبية، يعد تنصلا من التزامات الحكومة الدستورية واستغلال غير قانوني لأموال الأطباء وأعضاء المهن الطبية.
ثالثا: الانفاق على التدريب بأنواعه المختلفة وأساليبه يعتبر من أهم مهام الإدارة العامة للتدريب وقطاع تنمية المهن الطبية بوزارة الصحة، ومن غير القانوني استقطاع التمويل من رصيد الصندوق الممول ذاتيا من أعضاء المهن الطبية خارج إطار خدمات هذا الصندوق الخاص.
رابعا: بروتوكول الانفاق المالي على تدريب أطباء الامتياز البشريين؛ فيه مخالفة مالية لأهداف الصندوق الموجهة تجله صرف تعويضات، ومن ناحية أخرى أنه يركز على فئة معينة من أعضاء المهن الطبية في مرحلة الامتياز لاستكمال الدراسة الجامعية، ويهمل باقى الفئات مثل التمريض والصيادلة والعلاج الطبيعة وامتياز الصحة التطبيقية، وجميعهم مشاركون في تمويل الصندوق ذاتيا.
قانون صندوق التعويضات للمهن الطبية صدر أثناء وباء كورونا وكان ضرورة حتمية كبديل للقانون 16 لسنة 2028:
حيث كان الأطباء وزملاءهم من أعضاء الفرق الطبية يتساقطون في مواجهة الوباء وحماية المصريين ، كان اواجب الوقت يؤكد على أهمية التعويضات للشهداء وأسرهم فكانت المطالبات المتكررة بأن تشملهم مظلة قانون ضحايا العمليات من الجيش والشرطة ، ولكن القرار الجمهوري رقم 184 لسنة 2020 بإنشاء صندوق تعويضات مخاطر المهن الطبية جاء صادما للوسط الطبي والمهني لأنه شمل التمويل الذاتي من الأعضاء ويصرف تعويض مالى لمرة واحدة فقط ، على خلاف القانون 16 لسنة 2018 الممول من خزينة الدولة ، والذى يشمل تعويضات مالية متكررة ومزايا مجتمعية وتعليمية وتوظيفية وأولوية في السكن وخدمات أخرى متنوعة ،
وأخيرا ؛ جاءت تلك البروتوكولات لتستنزف رصيد مالى لصندوق ممول ذاتيا ؛ حيث يتم الصرف في مجالات بعيدة عن مصالح الأعضاء، وبفرض أن مجلس الإدارة استند الى نص ” الصرف لمزايا أخرى يقرها مجلس إدارة الصندوق” ؛ فإنه توجد مجالات أولى بالصرف مثل تمويل تطبيق القرار الوزاري رقم 682 لسنة 2020، والذى يؤكد على أن اختيار مكان العلاج بالنسبة للمنتفعين الموجودين بالخدمة، يكون طبقا لرغبات المنتفعين في تلقي الخدمة بأي من المستشفيات ، وبالنسبة للمنتفعين المحالين إلى المعاش، تكون الإحالة بموجب خطاب تحويل من الفروع والوحدات التابعة لها، دون تحمل المنتفعين بأية مبالغ مالية، وقد أشادت نقابة الأطباء بالقرار الوزاري وقتها حيث صرح الدكتور إيهاب الطاهر عضو المجلس إنه “قرار جيد نتمنى تفعيله”. ولكن القرار لم يتم تنفيذه بسبب عدم وجود تمويل؛ وجاءت فرصة مواتية كان يجب استغلالها من فائض أموال صندوق التعويضات؛ بدلا من إهدارها في مجالات أخرى بعيد عن مصالح أغلبية الأعضاء.
والخلاصة المؤسفة هي أن وزارة الصحة تعاني من ضعف مخصصات الموازنة، والتي بلغت 1.2% فقط من أجمالي الناتج المحلى بالمخالفة للمادة 18 من دستور 2018 والتي تنص على نسبة لا تقل عن 3% وقتها تزيد تدريجيا لتصل للمستوى العالمي؛ يعنى لا تقل هذا العام، وبعد 11 سنة من دستور 2014، عن نسبة 7.2 % من أجمالي الناتج المحلى حسب توصيات منظمة الصحة العالمية.
د/ مصطفى جاويش
13/9/2025