مقالات وآراء

حسن نافعه يكتب : هل ينجح ترامب في فرض “صفقة قرن” جديدة؟

حظيت السياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، رغم ما تنطوي عليه من إجحافٍ واضحٍ بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، بدعم أميركي مطلق، لا يتغيّر بتغيّر الأحزاب الحاكمة في الولايات المتحدة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، أو بتغير الحكومات الممسكة بالسلطة في إسرائيل، متطرّفة كانت أم معتدلة.

تلك حقيقة استقرّت وأصبحت إحدى مسلّمات السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة، غير أن ذلك لا يعني أن الإدارات الأميركية المتعاقبة انتهجت سياساتٍ متطابقة تجاه القضية الفلسطينية، فالواقع يثبت تباين هذه السياسات من إدارة إلى أخرى، رغم أنها محكومة بنمط عام يصعُب تجاوزه. ومع ذلك، يلاحظ أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض أحدث انقلاباً وصل إلى درجة القطيعة مع النمط التقليدي، وبالتالي، يخشى أن تؤدي عودته إلى البيت الأبيض مجدّدا إلى ترجيح كفه المبذولة لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وهو ما ستحاول المقالة إلقاء الضوء عليه من خلال رصد (وتتبّع) مواقف الإدارات الأميركية تجاه “حلّ الدولتين”، ففي عام 1993 دخلت الحكومة الإسرائيلية في مفاوضات سرّية مع منظمة التحرير الفلسطينية، أفضت إلى إبرام “اتفاقية أوسلو” التي أصرّ الرئيس الأميركي بيل كلينتون على أن يجري التوقيع عليها في البيت الأبيض، وهو ما حدث.

ولأن مفاوضات التسوية النهائية للقضية الفلسطينية تعثّرت، حرص كلينتون على استضافة كل من إيهود باراك وياسر عرفات في منتجع كامب ديفيد للتفاوض حول شكل الحل النهائي، قبل فترة قصيرة من انتهاء فترة ولايته الثانية.

ورغم فشل تلك المفاوضات، لم يتردّد كلينتون في أن يعلن رسميا عن معايير ينبغي الاستناد إليها للتوصل إلى تسوية نهائية للقضية الفلسطينية من وجهة النظر الأميركية، سمّيت “معايير كلينتون”، تضمّنت:

أولا، دولة فلسطينية مستقلة على مساحة تتراوح بين 94 – 96% من مساحة الأراضي المحتلة عام 1967، مع تبادل للأراضي بنسبٍ يتفق عليها لتعويض الفلسطينيين عن الكتل الاستيطانية التي ستضم إلى إسرائيل

. ثانياً، القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية والقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، وضمان سيادة إسرائيل على “كل ما هو يهودي” وسيادة الدولة الفلسطينية على “كل ما هو عربي”. ثالثاً، توطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم، أو تسهيل عودتهم إلى الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، ما يعني رفض مبدأ الحقّ الجماعي في عودة اللاجئيين الفلسطينيين إلى ديارهم.

ما يجري ليس سوى تمهيد لصفقة قرن جديدة، يُراد فرضها على المنطقة، عمادها التهجير القسري لسكان غزّة، وضم معظم الضفة الغربية لإسرائيل بعد تفريغها من سكانها

يعد جورج دبليو بوش الابن أول رئيس أميركي يدعو رسميا إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وفي عهده، أسندت مهمّة البحث عن خريطة طريق تفضي إليها إلى “رباعية دولية”، تضم الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعقد مؤتمر أنابولس لبحث صيغة التسوية النهائية. أما أوباما فكان أول رئيسٍ أميركيٍّ يمارس ضغوطاً حقيقية على إسرائيل لوقف النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية، واتخذ، في نهاية ولايته الثانية،

موقفاً شديد الأهمية، جسّده امتناع الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض (الفيتو) لإجهاض مشروع قرار لمجلس الأمن، يدين الاستيطان صراحة، ويؤكّد عدم شرعية جميع المستوطنات التي أقيمت في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، ويطالب بالوقف التام لكل النشاط الاستيطاني، وباعتماد حلّ الدولتين، ما سمح بصدور قرار مجلس الأمن رقم 2334، بعد أن صوّت لصالحه 14 عضواً، وامتنعت الولايات المتحدة عن التصويت.

لم يجرؤ أيٌّ من الرؤساء الأميركيين منذ إبرام اتفاقية أوسلو (1993) وحتى وصول ترامب إلى السلطة، على فرض عقوباتٍ على إسرائيل، رغم ما ارتكبته الأخيرة من انتهاكاتٍ فاضحة، لكنهم حرصوا جميعا على الالتزام بنمط معين في إدارة العلاقة مع إسرائيل، مفاده عدم الاعتراف رسميا بأي إجراءٍ غير قانوني تُقدم عليه الحكومة الإسرائيلية، بالتزام الصمت حينا أو باستخدام لغة دبلوماسية تتسم بالغموض حيناً آخر.

لكن ما إن تسلم ترامب السلطة بداية 2017 حتى خرج تماما على هذا النمط، وراح يتبنّي سياسة تستهدف التصفية الفعلية للقضية الفلسطينية، وتتماهى تماماً مع السياسة المتطرّفة التي تنتهجها حكومة نتنياهو، بل وتتجاوزها في بعض التفاصيل.

يُتوقّع أن تكون السنوات الثلاث المتبقية من ولاية ترامب الثانية هي الأخطر على المنطقة. لذا على جميع دول المنطقة أن تستيقظ من سباتها الذي طال

ففي فترة ولايته الأولى (2017-2020)، قرّر ترامب نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس التي اعترف بها عاصمة أبدية موحدة لدولة إسرائيل، وهو إجراءٌ لم يجرؤ على اتخاذه أي رئيس أميركي من قبل، رغم إصدار الكونغرس لقرار بهذا المعنى منذ التسعينيات، فضلا عن أنه يشكل انتهاكاً صريحاً ليس لاتفاقية أوسلو فحسب، وإنما لقواعد عديدة مستقرّة في القانون الدولي أيضا، ثم طرح خطّة سماها “صفقة القرن”، استهدفت في الواقع تصفية القضية الفلسطينية، وعكست رؤية ترى فيها مجرّد “مسألة إنسانية” قابلة للتسوية، من خلال مشاريع تجارية وتنموية، وليس قضية سياسية تتعلق بتحرير أرض احتلت بالقوة، أو بهوية شعب أجبر على الرحيل من وطنه، وله الحقّ في المطالبة بإقامة دولته المستقلة.

ووفقا لهذه الرؤية، اقترح ترامب إقامة شبه دولة على مساحة تقل عن 70% من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، منزوعة السلاح، ومحدودة السيادة، وليس لها الحقّ في بناء جيش وطني أو في السيطرة على المعابر والمجال الجوي والأنهار والمياه. الأغرب أن الدولة الفلسطينية التي اقترحها لم تكن متواصلة جغرافياً، وإنما تتشكّل من مناطق معزولة عن بعضها، يقترح ربطها بجسور ومعابر تسيطر عليها إسرائيل.

وتبلغ قيمة كل هذه التنازلات في مقابل مشارع استثمارية 50 مليار دولار، وتنفذ على خمس سنوات. وحين رفضت السلطة الفلسطينية هذه “الصفقة”، عاقبها ترامب بتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية معها، ومنع التمويل عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئيين (أونروا). بل وحرص، في نهاية فترة ولايته، أن يقدّم لإسرائيل هدية كبرى، وضغط على عدة دول عربية لتطبيع العلاقة مع إسرائيل “الاتفاقات الإبراهيمية”.

ولأنه خسر الانتخابات التالية التي فاز بها جو بايدن، لم يتمكن من الحصول على فترة ولاية ثانية تسمح له بمتابعة السير على الطريق الذي بدأه، فانهارت “صفقة القرن” أو تجمّدت بعد رحيله.

لم يجرؤ بايدن على تغيير المسار الذي سلكه ترامب، وحين انفجر “طوفان الأقصى” في طريقه بالقرب من نهاية السنة الثالثة من فترة ولايته الأولى والأخيرة، وجد نفسه في وضع المضطر لمدّ إسرائيل بكل ما تحتاج من دعم عسكري وسياسي ومالي لكسب حرب قرّر نتنياهو شنّها على مختلف الجبهات.

ومع ذلك، يمكن القول إن سياسات بايدن المعلنة تجاه القضية الفلسطينية ظلّت متسقة، بشكل أو بآخر، مع النمط الذي كان سائداً في مرحلة ما قبل ترامب. ولأنه لم يتمكّن من الفوز بولاية ثانية، لم يستطع ترك بصمة خاصة على مسار القضية الفلسطينية، بل ساهم في فتح الأبواب على مصاريعها أمام عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وهي الفرصة التي انتظرها نتنياهو طويلاً، ومعه الجناح الأكثر تطرّفاً في حكومته،

ليس أملاً في استكمال الطريق نحو تصفية القضية الفلسطينية هذه المرّة فحسب، وإنما لتمكين إسرائيل أيضاً من فرض هيمنتها المطلقة على المنطقة.

لم يجرؤ أيٌّ من الرؤساء الأميركيين منذ إبرام اتفاقية أوسلو وحتى وصول ترامب إلى السلطة، على فرض عقوباتٍ على إسرائيل

يظهر الفحص المدقّق للسياسة الشرق أوسطية التي تبنّاها ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض، وبوضوح تام، أنها تشكل امتداداً للسياسة التي انتهجها خلال فترة ولايته الأولى. ولأنه يرى، لأسبابٍ يغلب عليها الطابع الأيديولوجي، أن حكومة نتنياهو الحالية هي الحليف الأقرب للولايات المتحدة في المنطقة، رغم أنها الأكثر تطرّفاً، لم يتردّد ترامب في منح نتنياهو ضوءاً أخصر للقيام بكل ما يراه الأخير ضرورياً لتحقيق “الانتصار المطلق” الذي يسعى إليه، ما يفسّر السبب الذي جعله يتعهد لنتنياهو بالموافقة على تحلله من تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي جرى إبرامه في أواخر أيام ولاية بايدن، والتصريح له باستئناف القتال في نهاية المرحلة الأولى،

ولماذا قبل أن يقدّم له غطاء سياسيا أتاح له التلاعب بكل المحاولات التي جرت منذ ذلك الحين للتوصل إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق نار مؤقت أو دائم. بل لم يتردّد ترامب في التواطؤ مع نتنياهو في خطة الخداع التي سبقت شن الحرب على إيران، ثم ذهب إلى حد المشاركة المباشرة في الحرب، بتوجيه ضربة عسكرية أميركية للمنشآت النووية الإيرانية.

الأخطر من ذلك كله تصريحه لنتنياهو قبل أيام بشن هجوم مباشر على دولة قطر، الحليف الذي يستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الخارج، والوسيط المعتمد أميركيا وإسرائيلياً، لاغتيال أعضاء قادة من حركة حماس في أثناء اجتماعهم في الدوحة لمناقشة اقتراح أميركي بوقف إطلاق النار.

يدّعي ترامب أن نتنياهو لم يتشاور معه مسبقاً في توجيه هذه الضربة، وأنه لم يعلم بها إلا من الجيش الأميركي، وطلب من مساعديه إخطار أمير قطر بها، لكن بعد فوات الأوان. وهذا كله هراء محض وكذب صارخ، لا يمكن لأي طفل صغير أن يصدّقه.

فهذه رواياتٌ مضحكةٌ صممت للتغطية على فشل الضربة ونجاة قادة “حماس”، فالسماح لنتنياهو بتوجيه ضربات من قبل لعدة عواصم في المنطقة، منها بيروت ودمشق وطهران، والآن للدوحة، ليس له سوى معنى واحد، أن ترامب مصمّم على المضي في خطته الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، بالتواطؤ التام مع نتنياهو، ولن يقيم أي وزنٍ لأي حليف أو وسيط عربي يحاول عرقلة طريقه.

ويالتالي، ما يجري ليس سوى تمهيد لصفقة قرن جديدة، يُراد فرضها على المنطقة، عمادها التهجير القسري لسكان غزّة، وضم معظم الضفة الغربية لإسرائيل بعد تفريغها من سكانها، وتسليم نتنياهو مفاتيح الهيمنة على المنطقة. لذا يتوقّع أن تكون السنوات الثلاث المتبقية من ولاية ترامب الثانية هي الأخطر على المنطقة. ولذا على جميع دول المنطقة أن تستيقظ من سباتها الذي طال، وأن تستخلص العبر والدروس الصحيحة مما جرى ويجري، وإلا قد تجد نفسها فجأة في قاع الهاوية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى