مقالات وآراء

طارق الهاشمي نائب رئيس الوزراء العراقي السابق يكتب: أيها القادة.. خذوا حذركم

في خضم هذا العالم المتصارع، حيث لا مكان إلا للأقوياء، تبرز الحاجة الملحة إلى قوة جماعية تصون الوجود، وتحمي المصالح، وتواجه التحديات الكبرى.

هذه القوة، في سياقنا العربي والإسلامي، لا يمكن أن تنبع من الكيانات المجزأة، بل من الأمة بمفهومها الواسع: أمة تجمعها اللغة، ويشدّها الدين، وتوحدها المصالح، ويربطها التاريخ والمصير. لقد كانت هذه الأمة، في لحظات نادرة من وعيها، قادرة على أن تهز أركان الطغيان وتلهم الشعوب. لكنها سرعان ما تراجعت وتبعثرت في زحام ما سُمي بـ”الأوطان”، حتى أصبحت الفواصل السياسية والجغرافية حاجزاً دون أبسط أشكال التضامن. فالوطنية، التي كان يمكن أن تكون ركيزة للبناء الداخلي، تحولت في التجربة العربية إلى أداة لتفكيك الأمة لا لتعزيزها.

وبدلاً من أن تكون خطوة في طريق نهضة الأمة، أصبحت نقيضاً لها.لقد طُبِّع هذا الواقع في الثقافة والإعلام والسياسات، فصار كل شعب ينظر إلى قضاياه وكأنها تخصه وحده، وتحوّل الألم الجماعي إلى صدى خافت لا يتجاوز حدود الوطن. حتى القضايا الكبرى التي تمس الكل، كالقضية الفلسطينية والعدوان على غزة، لم تعد قادرة على استنهاض الجماهير كما كانت من قبل، ولا على تحريك أنظمة سُجنت داخل حدودها، واكتفت بالبيانات والمناشدات.

وربما لا يمكن إنكار أن جزءاً من فقدان الثقة بمفهوم الأمة يعود إلى التجارب المريرة التي خضناها مع أنظمة رفعت شعار (الأمة)! من قادة أو أحزاب أو تجمعات. لكنها استخدمت الشعار، في كثير من الأحيان، كأداة للتعبئة العاطفية، لا كمرجعية فعلية لبناء مشروع حضاري جامع. بل تم توظيفه لخدمة أجندات سلطوية وتطلعات شخصية، أو أيديولوجيات ضيقة، أو مغامرات سياسية غير محسوبة، دفعت الأمة ثمناً باهظاً لها من حاضرها ومستقبلها. وهكذا، تآكل المفهوم في الوعي الشعبي، وصار يُنظر إليه بريبة أو سخرية، بعد أن أفرغته الممارسة من مضمونه، واستُخدم كغطاء للهزائم بدل أن يكون منارة للنهضة!.

لكن فشل الأشخاص لا يعني فشل الفكرة، كما ان الخذلان الذي أصابنا من تجارب مشوهة لا يجب أن يدفعنا لدفن المعنى النبيل للأمة، بل لإعادة بنائه على أسس صلبة: من الصدق، والمسؤولية، والتكامل، والتشاركية، لا على الشعارات الجوفاء والولاءات الشخصية. وما يغيب عن كثيرين أن العالم لا يحترم إلا القوي، والقوة لا تصنعها الصدفة ولا الشعارات، بل تصنعها العصبة، والتكتل، والتحالف، والشعور بالانتماء إلى كيان أكبر من حدود رسمها الاستعمار وقنّنها الواقع المفروض.

والغرب الذي يتقن أدوات الهيمنة، يعرف ذلك جيداً، فيصنع تكتلاته (كالناتو، والاتحاد الأوروبي)، بينما نحن لازلنا نحتفظ بالجامعة العربية، وحتى بمنظمة التعاون الإسلامي وغيرها ونحتفي عادة بالقمم العربية او الإسلامية، لكن دون فعالية أو أثر.

إن ضياع الأمة لم يكن قدراً، بل نتيجة خيارات سياسية وثقافية وتربوية، ربما حان وقت مراجعتها، في زمن تعاظمت فيه التحديات وانحسرت فيه خيارات التصدي والمواجهة، فما أحوجنا اليوم إلى صحوة تعيد للأمة مكانتها وسط هذا الضجيج، لا لتذيب الأوطان فيها، بل لتجعل من كل وطن لبنة معتبرة في صرح الأمة القوية.

لقد آن الأوان لنُعيد تعريف مفهوم الانتماء، فالوطن عزيز، نعم، لكن الوطن بلا أمة، بلا سند أوسع، بلا عمق استراتيجي في الأرض والوجدان، يظل مكشوف الظهر ويغري المهووسين بالقوة إلى التعدي والارهاب. أما الأمة، فهي الحضن الذي يعطي للوطن قيمة ومعنى وقدرة على البقاء، ببساطة الأمة هي الرؤية، أما الوطن فهو الموقع، ولا قيمة بالطبع للموقع إن لم يتصل برؤية في افقها الواسع الرحيب.

لاشك المخاطر الداهمة تتخطى الأوطان إلى الأمة ووجودها، وبضمنها الاقليم والمنطقة العربية الخليجية، لهذا اصبح كل بيت وكل فرد فينا سواء كان في القاهرة، او بغداد، والرياض، والجزائر، او دمشق، والرباط معنياً بهذا التهديد، كما لو أن الصواريخ تسقط على جدرانه، والحال بعد العدوان على قطر في التاسع من ايلول سبتمبر ليس كما كان قبله، وقد برهن مجرم الحرب نتنياهو الفالت من العقوبة عملياً على مدى جديته وبكل صلافة في رسم الشرق الأوسط وفق رؤيته التوراتية! بل واصل تهديداته حتى بعد فشل الغارة الغادرة بقوله «رسالتي إلى الدول التي تؤوي (من وصفهم بالإرهابيين) أن يطردوا هؤلاء او يقدموهم للمحاكمة او سنفعل ذلك بأنفسنا»، ليس هذا فحسب، بل إن رئيس الكنيست الاسرائيلي أمير روحانا لم يتردد هو الآخر في إطلاق تصريح مشابه على العدوان الغادر على قطر بقوله: «إنه يحمل رسالة للشرق الأوسط بأسره»!، لهذا ليس مقبولاً عد العدوان الهمجي على غزة كأنه قضية تخص الفلسطينيين، ولا العدوان الإرهابي على قطر يخص القطريين وحدهم، وهذا الناطق الرسمي باسم مجرم الحرب نتنياهو يؤكد ذلك وهو يسخر من الانتقادات التي وجهت إلى العدوان «الفاشل» بقوله: «إن إسرائيل استعادت قوتها وقدرتها على الردع وإن جميع جيراننا في الشرق الأوسط يراقبون المشهد بخوف بالغ».

غدا وبعد غد يلتقي القادة في العالمين العربي والإسلامي في الدوحة في مؤتمر طارئ للتشاور في الرد المناسب على الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على دولة قطر وهي ليست مناسبة بروتوكولية او احتفالية عادية، بل فرصة واعدة للاتفاق على مسار جديد يردع الكيان الغاصب من التمادي في صلفه واستهتاره، وهو المطلوب الذي افتقدته القمم العربية الإسلامية سابقا.

أيها القادة والزعماء

شعوبكم تنتظر منكم موقفاً صلباً موحداً، يعيد الثقة بمؤتمرات القمة، يتضمن رسالة واضحة لا لبس فيها أن:

دولة قطر ليست وحدها بل نحن معها في المنشط والمكره.
لا نتخلى عن ثوابت الأمة ولا نساوم على أرض الرباط (فلسطين).
لا تراجع عن مطلبنا في وقف العدوان على غزة فوراً.
لابد أن يدفع المعتدي الإسرائيلي ثمن عدوانه وإرهابه. فلا تخذلوهم.. فلا تخذلوهم.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى