مقالات وآراء

د. تامر المغازي يكتب: الغُربة المُرّة وعسل أسود حنين يختلط فيه المَرار والحُلْو

ليست الغُربة مجردُ مسافةٍ تُقاسُ بالأميال، وليست مجرد إحداثياتٍ على خريطة.

إنها حالةٌ وجوديةٌ يعيشها المغترب، يحمل فيها وطنه في قلبه كجرحٍ نازفٍ وحُلْمٍ مُعلّق.

وكثيراً ما تختزل هذه الحالة في ثنائيةٍ متناقضةٍ تلمسُ أغوارَ النفس: “غُربة مُرّة” و “عسل أسود”.

فهي حنينٌ يَمرُّ فيه المرء بلحظاتٍ من العُزلة والوجع، وأخرى من الحلاوة والافتخار، وكأنما يشرب قدحاً من العسل الأسود، حلو المذاق لكن لونه يُذكِّرُ بمرارة قصب السكر الذي اُستُخلِص منه.

الغُربة المُرّة: وجع الاغتراب الغُربة مرّة كطعم الحنظل.

هي ذلك الإحساس الغامر بالوحدة وسط الزحام، حين تكون وجوهاً غريبة ولهجاتٌ لا تُلامس شغاف القلب.

هي صباحاتٌ تفتقد فيها رائحة القهوة العربية المتصاعدة من دلة الأهل، وليالٍ تبحث فيها عن نجومٍ تعرفها من شرفة بيت الطفولة.

هي مرارة البُعد عند المرض، وحين تفوت مناسبةٌ سعيدة، أو عند فاجعةٍ تُحيط بك فيها الوجوهُ غير المألوفة.

هي معاناةٌ يوميةٌ مع التفاصيل الصغيرة: نظرةٌ فيها استعلاء، أو نبرةٌ فيها استغراب لِلون بشرتك أو لاسمك أو لدينك.

هي معركة الهوية الدائمة، ذلك السؤال الذي يطارده: “من أين أنت؟” وكأنه لا ينتمي تماماً.

إنها مرارة الشعور بأنك دائماً “الآخر”، غريبٌ حتى لو امتلكت كل أوراق الإقامة.

عسل أسود: حلاوة الانتماء لكن في قلب هذه المرارة، تنبعث حلاوة غريبة، كالعسل الأسود الذي يُستخرج من قصبٍ عانى من قسوة الشمس والعرق.

هذه الحلاوة هي “عسل أسود” الغربة.

هي ذلك الفخر العميق الذي ينشأ عندما ترى علم بلادك يرفرف في محفل عالمي، أو عندما تسمع بكلمة عربية في مكان لم تتوقعها.

هي قوةُ الشخصية التي تبنيها من تحديات الاغتراب، والاستقلالية المادية والفكرية، ونضجُ الرؤية الذي يأتيك من مقارنة الثقافات.

هي حلاوة النجاح الذي تتحصّل عليه بجهدك وعرقك، بعيداً عن محسوبية الأهل والمعارف، فتصبح نتيجتك ملكك وحدك.

هي تلك اللحظات التي تصبح فيها سفيراً غير متوجٍ لبلدك، تشرح ثقافتها وتذوق طعامها وتدافع عن قيمها، فتشعر بأنك جذرٌ من هذه الأرض البعيدة يمتدّ ليحمل عطرها حيثما ذهب.

الثنائية المتجاذبة: حُلْوٌ مُرّ لا يمكن الفصل بين المرارة والحلاوة في تجربة الغربة؛ فهما وجهان لعملة واحدة، كالعسل الأسود الذي هو حلوٌ في مذاقه، أسودٌ في لونه، يذكرك دائماً بالأصل الذي جاء منه.

الغربة تمنحك منظوراً فريداً لوطنك، فتبدأ برؤيته عن بُعدٍ بوضوحٍ أكبر، تحبه رغم عيوبه، وتشتاق إليه رغم ذكرياتك المُرّة فيه أحياناً.

هي تجربةٌ إنسانيةٌ عميقة تُذوّبك في بوتقة المشاعر المتضادة: حزنٌ على ما فات، وأملٌ فيما هو آت.

شوقٌ يقطر مرارة، وذكرى تلمع كقطعة حلوى.

يظل الحنين هو الخيط الرابط الذي ينسج من هذه التناقضات لوحةً واحدة اسمها “الهوية”، هويةٌ أصبحت أكثر ثراءً لأنها ذوقت طعم الغُربة المُرّة، وذاقت حلاوة العسل الأسود.

في النهاية، يبقى المغتربُ حاملاً في صدره وطناً من الذكريات، يرويه بدموع الشوق وأحياناً بابتسامة الفخر، يشرب كأس الغربة كاملةً، بمرارتها وحلاوتها، لأنه يعلم أن في هذه الخلطة بالذات تكمن قوة الروح وعبق التاريخ الشخصي الذي سيحكيه لأحفاده ذات يوم

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى