
(صورة توضيحية: فنجان قهوة تركي بجانب أوراق نباتية وجزء من علم مصر)
لا يبدو الأمر مجرد مشروب أسود يُقدم في فنجان صغير.
إنه طقس يومي، طقس مقدس تتشابك فيه خيوط الذاكرة مع رائحة البن المحمص، مع دقات القلب، مع همسات الأهل.
هنا، في غربتي، أصبح فنجان القهوة السادة أشبه ببوابة زمنية، أعبر منها كل صباح إلى شوارع مصر التي لم أغادرها حقًا، بل حملتها في قلبي حيثما حللت.
كل رشفة هي رحلة.
رائحة البن المتصاعدة تُقلع بي فورًا من غرفتي الباردة إلى دفء منزلنا في القاهرة.
إلى أمي التي كان فنجان قهوتها صباحًا هو إيذان ببدء يوم حافل بالعطاء والحنان.
إلى صوت أخواتي المليء بالضحكات والنقاشات التي لا تنتهي.
إلى جلوسي صباح كان أقرأ الجريدة وأنا أرشف قهوتي في هدوء.
إنها رائحة “الأمان” التي لا أجدها في أي مكان آخر في هذا العالم الواسع.
في غربتي، أعد قهوتي بنفسي، بنفس الطريقة تقريبًا، بنفس المذاق أحيانًا.
لكنها تظل قهوة “سادة” بمعنى أنها وحيدة، تفتقد لسكر الضحكات، ولبن الحكايات، وقشطة النكات التي يطلقها الأصدقاء.
أتذكر مقاهي مصر، وأصوات النرد، وضجيج الحياة الذي كنا نشتكي منه، وأجدني اليوم أشتاق إليه كما يشتيق العطشان للماء.
أشتاق للبائع الذي ينادي، أشتاق لصوت بوق الأتوبيس، حتي لزحام الشوارع الذي كان يمثل بالنسبة لي “حياة” وليس إعاقة.
الاشتياق لا يقتصر على الأشخاص والأصوات فحسب، بل يمتد ليشمل كل الحواس.
إنه اشتياق الذوق والرائحة.
رائحة الفول الساخن بالكمون والزيت في الصباح الباكر، رائحة الكشري المتصاعدة من دكاكينه، طعم الشاي الحلو في “الاستراحات” على طريق السفر.
إنها نكهة البلد بأكمله، نكهة الكرم والصدق التي تختصرها مائدة الطعام.
وتمر السنين، وتتغير الأماكن، لكن حب مصر لا يتغير.
إنه حب متجذر في الروح، مثل نيلها الخالد الذي يروي أرضها وقلوب أبنائها.
الغربة علمتني أن الوطن ليس مجرد مكان على الخريطة، بل هو مجموعة من المشاعر والأحاسيس التي نحملها فينا.
هو عطر أمي، وضحكة أختي، ونصيحة صديق، وروعة الأهرامات، وعبق التاريخ الذي يفوح من كل شبر في أرضها الطيبة.
ها أنا ذا، أرفع فنجاني كل يوم في وجه الغربة، أتجرع فيه الحنين وأتذوق الذكريات.
وأعلم أن هذه الغربة ما هي إلا محطة، وأن العودة ستكون حتمًا، حيث سأجلس مع من أحب، وأرشف قهوتي وسط من أهوى، وأروي لهم كيف كانت قهوتي السادة في الغربة هي خيط النجاة الذي ربطني بهم، وبمصر، أم الدنيا وأغلى أرض في الوجود.
لأن القهوة في مصر ليست مجرد مشروب..
إنها لقاء، وهي وطن صغير في فنجان.