مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : الاتفاق السعودي الباكستاني ومسافة السِكّة

لم يكن الإعلان عن اتفاقية الدفاع الاستراتيجي بين المملكة العربية السعودية وباكستان امس، السابع عشر من سبتمبر ٢٠٢٥ حدثًا عابرًا في سجل التحالفات العسكرية، بل محطة فاصلة تكشف عن تحولات عميقة في موازين القوة والأدوار داخل الشرق الأوسط.

فالتاريخ سيذكر أن هذه اللحظة لم تكن مجرد توقيع بين عاصمتين، بل كانت إعلانًا عن اهتزاز رهان “مسافة السكة” الذي ظل شعارًا أكثر منه التزامًا عمليًا في لحظات التهديد.

جوهر الاتفاق يقوم على تعزيز الردع المشترك، إذ نصّ على أن أي اعتداء على أحد الطرفين يُعد اعتداءً على الآخر. هذه الصياغة تُضفي على العلاقة طابعًا دفاعيًا ملزمًا، يذهب أبعد من التعاون التقليدي في التدريب أو تبادل الخبرات. باكستان، بثقلها العسكري وجيشها الذي يُعد سادس أكبر جيش في العالم، وبترسانتها النووية المعلَنة، تدخل إلى قلب المعادلة الأمنية الخليجية كفاعل جديد ومثير للجدل.

أهمية الخطوة لا تُقاس فقط بحجم القوة الباكستانية، بل أيضًا بتوقيتها. فالسعودية تعيش لحظة فارقة بعد الضربة الإسرائيلية في الدوحة، والتي عرّت هشاشة المظلّات الدولية والإقليمية القائمة، سواء كانت أمريكا أو تركيا. الاتفاق مع إسلام آباد يُعيد رسم خرائط الردع من جديد، حيث تملك باكستان قدرة على رفع كلفة أي مغامرة عسكرية تستهدف الخليج.

لكن باكستان ليست دولة مستقرة تمامًا؛ فبرلمانها سبق أن رفض المشاركة في حرب اليمن عام ٢٠١٥، ما ترك أثرًا في الذاكرة الخليجية. كما أن اقتصادها يعاني من أزمات خانقة، وارتباطها الوثيق ببرامج صندوق النقد يجعلها رهينة للتقلبات الداخلية وضغوط الخارج. ما يعني أن استدامة هذا الاتفاق مشروطة بقدرة باكستان على تجاوز أزماتها الداخلية.

في المقابل، تبقى مصر الغائب الحاضر. فبينما كانت القاهرة هي الحليف التقليدي والأقرب جغرافيًا للمملكة، تراجعت مكانتها الإقليمية بفعل أزماتها الاقتصادية وتورطها في حلقة مفرغة من الديون. تخلّت مصر، عمليًا، عن دورها كحارس أول للخليج، وهو ما دفع الرياض إلى البحث عن بدائل أكثر موثوقية وسرعة.

هنا يبرز التساؤل: هل فرّطت مصر في قيمتها الاستراتيجية؟ الإجابة، للأسف، نعم. فبدل أن تستثمر في وحدتها الداخلية وموقعها الجغرافي وممراتها البحرية الحيوية، انشغلت بأولويات مالية قصيرة المدى، وتركت فراغًا ملأته قوى أخرى.

تركيا، على سبيل المثال، دخلت على خط التعاون العسكري-الصناعي مع السعودية منذ سنوات، وقدّمت منظومات الطائرات المسيّرة والتكنولوجيا الدفاعية. دور أنقرة هنا مختلف عن دور باكستان، لكنه مكمّل له؛ فبينما تمثل باكستان ذراع الردع السريع، توفر تركيا ذراع التمكين الصناعي والتكنولوجي. وإذا أُضيفت مصر إلى هذا المثلث عبر ميزتها البحرية في البحر الأحمر ومضائق السويس وباب المندب، فإننا أمام شبكة أدوار متكاملة لا متنافسة.

إيران، من جهتها، تقرأ الاتفاق بعين القلق. فهي التي راهنت على مصالحة تاريخية مع السعودية بوساطة الصين، ترى الآن شريكها السابق يذهب بعيدًا نحو قوة نووية سنّية ذات علاقة ملتبسة معها. هذا يعيد فتح باب الاستقطاب الإقليمي ويضع طهران أمام تحديات إضافية.

الهند كذلك في موقع حرج. فالعلاقة السعودية-الهندية تشهد نموًا في مجالات الطاقة والاستثمار، لكن دخول باكستان كحليف عسكري للرياض يثير حساسيات تاريخية. فالتقارب الهندي-الإسرائيلي-الأمريكي قد يدفع نحو إعادة تقييم العلاقات مع الخليج، وربما إلى صياغة ترتيبات جديدة لاحتواء أي اختلال في التوازن الإقليمي.

أما الولايات المتحدة، التي طالما اعتُبرت الحامي التقليدي للخليج، فستقرأ الاتفاق باعتباره رسالة عدم ثقة في التزاماتها. واشنطن لا تزال شريكًا استراتيجيًا، لكنها لم تعد الضامن الوحيد. تعدد المظلات أصبح ضرورة، لا خيارًا.

الاتفاقية أيضًا تُرسل رسالة إلى الداخل السعودي: حماية الأمن القومي لم تعد مرهونة بالتحالفات الغربية فقط، بل يمكن بناؤها عبر شراكات إسلامية وآسيوية. وهذه النقلة تحمل بعدًا سياسيًا رمزيًا لا يقل أهمية عن بعدها العسكري.

من زاوية الردع، فإن وجود باكستان النووية في قلب التحالف السعودي يُغيّر حسابات الأطراف الأخرى. أي تهديد مباشر للرياض قد يُقرأ على أنه اختبار مباشر لباكستان، وهذا بحد ذاته يُضاعف كلفة أي عدوان محتمل.

لكن يبقى السؤال: هل تستطيع باكستان، في ظل أزماتها الداخلية وحساسياتها الإقليمية، الحفاظ على التزاماتها؟ التاريخ القريب لا يقدّم ضمانات قاطعة.

الاتفاق أيضًا يطرح أسئلة حول مستقبل مسار المصالحة العربية–العربية. فهل يزيد من التباعد بين الرياض والقاهرة؟ أم يشكّل فرصة لإعادة بناء علاقة جديدة تقوم على توزيع أدوار لا على مزاحمة أدوار؟

هنا تأتي توصية أساسية: على مصر أن تستعيد زمام المبادرة عبر تقديم نفسها شريكًا استراتيجيًا في ملف البحر الأحمر والمضائق، وأن تعيد بناء جسور الثقة مع السعودية وتركيا في إطار تعاون ثلاثي، يتجاوز الحسابات المالية الضيقة نحو معادلة أمنية شاملة.

مثل هذا التعاون يتيح لمصر أن تعوّض تراجعها الحالي وتستعيد قيمتها الاستراتيجية، فيما يحفظ للسعودية تعددية المظلات، ويمنح تركيا موقعها الصناعي-التكنولوجي. أما باكستان، فتمثل الضامن النووي السريع، مهما كانت هشاشة واقعها الداخلي.

في النهاية، تنهار “مسافة السكة” كشعار لأنها لم تُترجم إلى واقع. الاتفاق السعودي الباكستاني هو إعلان صريح بأن المنطقة تبحث عن شركاء قادرين على ردع الأخطار، لا عن شعارات جوفاء. ومصر مطالبة، أكثر من أي وقت مضى، بإعادة النظر في موقعها ودورها، قبل أن تجد نفسها خارج معادلة الحماية والردع في الإقليم.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى