
إن الاتجاه العالمي نحو المركزية هو نهاية عصر الفيدرالية التقليدية، حتى في الأنظمة الدستورية التي تُكرس مبدأ توزيع السلطات بين الحكومات الوطنية والمحلية، يتجه البوصلة السياسية بقوة نحو تعزيز هيمنة المركز على حساب الأطراف.
ففي ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، تمتعت الولايات (لاندَر) بصلاحيات واسعة بموجب دستور 1949، لكن ما إن استعادت البلاد سيادتها الكاملة حتى بدأت السلطة الاتحادية في استعادة زمام الأمور تدريجياً.
وفي الولايات المتحدة، شهدنا أفولاً واضحاً لمبدأ “الفيدرالية المزدوجة” الذي كان يحمي اختصاصات الولايات من تدخل الحكومة الفيدرالية. لقد تحولنا إلى نموذج “الفيدرالية التعاونية” حيث أصبح التمويل الفيدرالي أداة ضغط فعالة لفرض السياسات الوطنية، من التعليم إلى الصحة إلى البنية التحتية.
بل إن الحكومة المركزية لم تتردد في استخدام سلطاتها الدستورية لفرض معايير وطنية في قضايا حساسة مثل الحقوق المدنية وإلغاء الفصل العنصري. إن مقاومة اللامركزية هي صحوة الأطراف في وجه المركز رغم هذا المد المركزي، تشهد العديد من الدول تحركات مضادة لإحياء السلطات المحلية.
ففي فرنسا، إيطاليا، وبلجيكا، نجحت حركات إقليمية في انتزاع مكاسب مهمة على طريق اللامركزية. والأكثر لفتاً للانتباه هو الصحوة القومية في مناطق مثل اسكتلندا، كاتالونيا، كيبيك، وبريتاني، حيث تتحول المطالبة بالحكم الذاتي إلى حركات سياسية مؤثرة تهدد بزعزعة كيان الدولة المركزية نفسها.
إن أزمة المدن الانهيار الحضري وتفكك السلطة المحلية منذ أرسطو، عرف الفلاسفة أن توسع المدن يغير طبيعة الحكم. اليوم، نواجه تحدي الانتقال من “المدينة” إلى “المدينة العملاقة” (ميجا سيتي) حيث تتفاقم المشاكل بشكل غير مسبوق.
إن البنية التحتية الأمريكية على حافة الهاوية فإن المدن الكبرى في الولايات المتحدة تعاني من أزمة بنية تحتية متدهورة، أصبحت تهدد الأمن القومي. لكن المشكلة الأعمق هي هروب القاعدة الضريبية مع انتقال الطبقة الوسطى والصناعات إلى الضواحي، تاركة المركز يعاني من تركيز غير مسبوق للمشاكل الاجتماعية ومنها الجريمة المنظمة، و البطالة، والتشرد، وأسواق المخدرات.
إن الفشل الحكومي في العواصم الكبرى فالملاحظ أن الهياكل الحكومية التقليدية عاجزة عن إدارة هذه التعقيدات. لا توجد مؤسسات تمثيلية على مستوى المناطق الحضرية الكبرى، ولا تنسيق فعال بين الكيانات المحلية المتعددة. والنتيجة؟ فشل ذريع في توفير خدمات متساوية، تمويل غير عادل، وتخطيط متجزئ لا يستطيع مواجهة تحديات الحياة العصرية.
إن هذا التفكك الإداري يخلق فراغاً سلطوياً قد تملؤه قوى غير ديمقراطية، أو يؤدي إلى مزيد من التدخل المركزي الذي يغذي دائرة مفرغة من التبعية والضعف. ويبدو أن الصراع بين المركز والأطراف هو السمة الأبرز للحكم في القرن الحادي والعشرين. بينما تدفع التحديات العالمية نحو مزيد من المركزية، تدفع الاحتياجات المحورية نحو اللامركزية، والتحدي هو إيجاد نموذج حكم مرن يوحد دون أن يخنق، وينظم دون أن يسحق الخصوصيات المحلية.