
في حياتي، وجوه لم تكن محطات عابرة، بل منعطفات كبرى أعادت ترتيب البوصلة. ومن هؤلاء أستاذي الجليل الشافعي بشير، الذي لم يكن مجرد معلم في قاعة محاضرات، بل مدرسة كاملة في الأدب والعلم، في القانون الدولي، وفي حب الوطن والشجاعة واحترام الذات والآخرين.
أكتب عنه اليوم متزامنًا مع ذكرى توقيع معاهدة كامب ديفيد، التي كان أستاذي من أبرز المفندين والناقدين لها. في محاضراته، كشف بجرأة أن هذه المعاهدة باطلة سياسيًا وقانونيًا، وكتب في مؤلفاته ما يسجّل موقفًا صريحًا ضدها.
كانت المفاجأة الصادمة للسلطة وللرئيس السادات نفسه، حين وضع الشافعي بشير سؤالًا في امتحان الفرقة الأولى بكلية الحقوق يطلب من الطلاب كتابة رأي قانوني وسياسي في معاهدة كامب ديفيد. فجاءت أوراق الإجابة بيانات سياسية رائعة، ترددت فيها صوت المعلم وموقفه، فغضب السادات وأصدر قراره بإبعاده ضمن قرارات سبتمبر 1981 الشهيرة.
لم يتراجع الشافعي بشير، بل واجه الإبعاد بشجاعة. نُقل للعمل في مؤسسة حكومية كموظف عادي، لكنه لم ينكسر. وبعد اغتيال السادات وإلغاء أغلب قرارات سبتمبر، عاد إلى الجامعة مستقلاً سيارته البيجو اللون النبيتي، حيث استقبله آلاف الطلاب في مظاهرة جامعة المنصورة عام 1982.
كان ذلك اليوم علامة فارقة في حياتي: آلاف الطلاب يهتفون لاستقبال أستاذهم المبعد، وأنا بينهم أشعر أني أستقبل وطنًا عاد من منفاه، لا مجرد أستاذ إلى مدرجه. لقد جسّد لنا أن الحرية لا تُستعار بل تُنتزع بالثبات والشجاعة.
لم يكن معلمًا في القاعة فقط، بل كان رائد أسرة “إنسان” التي أسستها في جامعة المنصورة. أسرةٌ ليبرالية تضم الطلاب الذين ينتمون للفكر الليبرالي وتيارات سياسية قريبة، كانت من أفضل المدارس التي زرعت فينا الحُب بالعلم والعمل والحرية.
بالنسبة لي، كان بيته في طريق الحرية بالإسكندرية — الذي صار يُعرف لاحقًا باسم طريق جمال عبد الناصر — محطةً ثابتة في زيارتي لمدينتي. بعد أن أزور قبر أمي رحمها الله في مقابر المنارة، كنت أعبر الطريق مشياً إلى كلية الهندسة، لأجد الأستاذ الشافعي بشير يسكن هناك، يعيش جواره، وكان هو أستاذ الحريّة والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان.
علّمني أن القانون ليس نصوصًا جامدة بل روح عدل، وأن الحرية بلا مسؤولية فوضى، وأن المسؤولية بلا حرية عبودية. دروسه لم تكن في المنهج، لكنها كانت جوهر التربية الوطنية.
عاش مظلومًا؛ الدولة والأجهزة الأمنية رفضت أن يتولى عمادة الكلية أو رئاسة الجامعة رغم استحقاقه، ورغم انتخابه مرات عديدة رئيسًا لنادي أعضاء هيئة التدريس. مات عام 2004 دون أن ينال حقه الأدبي الذي يليق به، رحم الله الشافعي بشير رحمة واسعة.
سيبقى اسمه فينا علمًا لا يُمحى، وصدى موقف لا يُنسى، وصوت ضمير حيّ لكل من عرفه أو سمع عنه.
…وغدًا، أغادر محراب القانون الدولي، حيث كان الشافعي بشير يعلّمنا أن الحق أقوى من الباطل، لأفتح الصفحة مع خالد جمال عبد الناصر، ابن الزعيم الذي أثبت أن النسب لا يصنع الرجال، بل تصنعهم المروءة والإنسانية والوفاء.
أكتب عنهم ليبقى أثرهم، وأكتب عن نفسي لأبقى وفيًّا لهم.