مقالات وآراء

د.تامر المغازي يكتب: بين النيل والأمستل مفارقة العطاء في ظلّ القهر

(القاهرة – أمستردام) – على ضفاف نهرين مختلفين تماماً، يعيش شعبان تحت سماء واحدة، لكن بينهما هاوية من الاختلاف لا يمكن قياسها بالكيلومترات.

من قلب مصر، أرض الحضارة والتاريخ، حيث تتدفق طيبة القلب كما النيل، لكن حيث يجفّ نبع الكرامة الإنسانية تحت وطأة حكام ظالمين، وفقر مدقع، وجهل متوارث.

في الشوارع الضيقة لحارة مصرية، ستجد البسمة التي تشرق من بين أكوام الهموم، واليد الممدودة للمساعدة حتى لو كان صاحبها لا يملك قوت يومه.

“طيبة أهل مصر التي لا توصف” ليست مجرد عبارة، بل هي واقع يومي.

جار يطعم جاره، وغريب يُؤوى، ومشكلة واحدة تُحل بتضامن الجميع.

هذه الطيبة هي الوقود الذي يُبقي المحرك يعمل، رغم أن كل المؤشرات تقول إنه كان يجب أن يتوقف منذ زمن طويل.

لكن هذه الطيبة نفسها، للأسف، هي ما يستغله نظام حكم قمعي لعقود من الظلم .

نظام لا يرى في هذا الشعب سوى قطعان يجب ترويضها بالخوف والعوز.

الفقر لم يعد مجرد حالة اقتصادية، بل أصبح سجناً وجودياً.

حلم السفر للاستجمام، حتى داخل البلاد إلى الساحل أو حتي جمصه مصيف الفقراء كما يقال عنها ، تحول إلى رفاهية أسطورية يحكي عنها الآباء لأبنائهم كما يحكون قصص ألف ليلة وليلة.

الحياة هناك معركة يومية للبقاء، حيث يذوب وقت العمل في وقت المعاناة، ولا يبقى وقت للمرح إلا على استحياء، كشرفة صغيرة يطل منها الإنسان على هواء الحرية.

وفي الجانب الآخر من البحر المتوسط، تقف هولندا، نقيضاً مطلقاً.

في أمستردام، حيث تعبر آلاف الدراجات الجسور فوق قنوات المياه، يعيش الهولنديون حياتهم باتزانٍ مذهل.

وقت العمل مقدس للإنتاجية ووقت الفراغ مُخصص للعائلة والسفر والهوايات.

السفر السنوي خارج البلاد ليس مؤشراً على الغنى فقط، بل على حق مكتسب حق الاستجمام واكتشاف العالم.

الدولة هناك تخدم مواطنها، وتضمن له صحته، وتعليمه، وكوكبه في شيخوخة كريمة.

ليس غريباً أن ترى رجلاً في التسعين من عمره يركب دراجته بثبات وشغف، ربما بأكثر لياقة من شاب مصري في العشرين، أنهكته هموم البحث عن دواء لوالدته، أو عن وظيفة تكفيه إيجار غرفته.

المفارقة المؤلمة هنا ليست في أن الهولندي يعيش أفضل – فهذا نتاج تراكم لسياسات حكيمة وثروة عادلة – بل في أن المصري، رغم كل هذا العطاء الإنساني الفياض، مُحرم من أبسط حقوقه.

طيبته التي تمنحه القوة للاستمرار، هي نفسها التي يستغلها الحاكم الضعيف ليبقيه في دائرة التبعية والخضوع.

الجهل الذي يتحدث عنه البعض في مصر ليس نقصاً في الذكاء، بل هو نتيجة طبيعية لنظام تعليمي مُدمر متعمد، لأنه ينتج مواطناً سهل القياد، منشغلاً بالخبز عن الحرية.

الفقر ليس قدراً محتوماً، بل هو سياسة ممنهجة لتحويل الإنسان إلى كائن همّه الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، لا العيش بكرامة.

العجوز الهولندي الذي يركب الدراجة هو رمز للعمر الممتد في صحة جيدة، وهو نتاج رعاية صحية ووعي مجتمعي.

بينما العجوز المصري، إن امتد به العمر، فهو يواجه الشيخوخة في غرفة مكتظة، وطوابير مستشفيات، وهموم علاج لا تطاق.

الخلاصة ليست في الحسد، بل في التساؤل: إلى متى؟

التقارير الدولية تقيس الفقر ومتوسط الأعمار ومؤشرات السعادة، لكنها قد تعجز عن قيس “الروح”.

روح الشعب المصري التي ترفض أن تنكسر، طيبته التي تتصاعد كعطر نادر من بين ركام المعاناة.

السؤال الأكبر الذي يظل عالقاً

ماذا لو حكم هذا الشعب الطيب حكامٌ يرقون إلى مستوى إنسانيته؟

ماذا لو أتيحت له موارد البلاد بدلاً من نهبها؟

ماذا لو تحولت طيبته إلى طاقة إيجابية لبناء وطنه، بدلاً من أن تكون مجرد أداة للصمود في وجه ظلم حكامه؟

المقارنة مع هولندا ليست لتذكير المصري بمرارته، بل هي صرخة للعالم وللضمائر انظروا إلى هذه المفارقة غير العادلة.

انظروا إلى شعب يستحق الحياة، لا مجرد البقاء.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى