مقالات وآراء

د.عدنان منصور يكتب: ما بعد غزة.. أى خيار للقادة العرب؟

فيما جيش الاحتلال “الإسرائيلي” بكلّ وحشيته وهمجيته وبربريته، يقوم بهدم ما تبقى من مدينة غزة، تمهيداً للاستيلاء عليها، ومحوها من على الخريطة، وتهجير أهلها، فإنّه بذلك يسطر لتاريخ العرب، صفحة من الذل والهوان، على مرأى ومسمع من قادة وحكام، رفعوا وهماً، وخداعاً، وتضليلاً منذ عام 1948 وحتى اليوم، قضيّة فلسطين، على أنّها القضية المركزية للأمة، وبوصلة العمل عربيّ.
على مدى عقود، كان العدو الإسرائيلي أكثر صدقاً من العرب القيّمين على هذه الأمة لجهة ما يتطلّع، ويريده، ويهدف، ويعمل عليه بكلّ وقاحة ودون مواربة. فيما قادة العرب لم يحافظوا على موقف موحّد، أو أن يلتزموا بقرار جماعيّ، ويثبتوا عليه. إذ ما يصرّحون به علانيّة، لا يعكس حقيقة ما يبطنونه في نفوسهم. ينادون بوحدة الصف العربي، فيما هم يحرصون على ان يكونوا خارج الهدف.
منذ 77 عاماً، لم تتغيّر عقليتهم، ونياتهم تجاه بعضهم البعض. ينغمسون ويزجّون أنفسهم دائماً في الحروب الداخليّة التي تشهدها بلدان عربية، وفي الوقت نفسه يبدون حرصهم الشديد على سلامة وأمن واستقرار هذه البلدان. قضيّة فلسطين لم تكن لهم إلا جسر عبور لتظريف صورتهم أمام شعوبهم، والمزايدة في ما بينهم على تعلقهم بالقضية، والدفاع “المستميت” عن الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.
قادة وحكام وزعماء أمة يتبارون في الجامعة العربية من أجل حلّ القضايا المصيرية وغير المصيرية للامة، فإذا بمحفوظات الجامعة العربية تختزن كمّاً كبيراً من القرارات الصادرة عنها، حيث تناولت الأحداث والمواقف، والتطورات، والمستجدات الطارئة، والمبادرات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وعالجتها على الورق، دون أن تحظى المعالجة بالمتابعة والتنفيذ. لذلك كان من البديهي، أن لا يجتمع العرب على “دبلوماسية الحرب” ليحاربوا معاً، ولا على “دبلوماسيّة السلام” ليسالموا معاً، بحيث بقيت القضية الفلسطينية في واد، وقادة الأمة المدافعين عنها في واد آخر.
من موقع الضعف لا القوة، اجتمع العرب وتقدّموا العام 2002، بالمبادرة العربية للسلام، حتى ينتهوا من الصراع العربي الإسرائيلي، ظناً منهم انّ شارون سيتلقف المبادرة، وإذ به يوجه صفعة للقمة بقوله الشهير على أنّ مبادرتهم لا تساوي الحبر الذي كتبت به! شارون وقادة “إسرائيل” كانوا يعلمون جيداً ما يريدون، ويعرفون في المقابل حقيقة تفرّق العرب،
وخلافاتهم، وعدم جديّتهم وهزالة أفعالم، وإنْ أكثروا الكلام في الدفاع عن فلسطين وحقوق شعبها. في حين تعمل فيه “إسرائيل” بكلّ ثقة على تحقيق أهدافها السياسية، والأمنية، والاستراتيجية، فيما القادة العرب يكتفون بـ “البلاغة والفصاحة”، والبيانات والشعارات والتصريحات الفضفاضة.
عندما رفضت “إسرائيل” المبادرة العربيّة للسلام، كان حال العرب عام 2002، أفضل بكثير عما هو عليه اليوم، حيث تشهد العديد من بلدانهم في الوقت الحاضر، تمزقاً، وحروباً داخلية، وفوضى، وانقسامات، وتفسخ نسيجهم الوطني. لذلك ليس من داعٍ كي تقبل “إسرائيل” بالمبادرة الميتة التي لم يتوقف العرب عن الحديث عنها في كلّ مؤتمر واجتماع طارئ!
من قال إنّ “إسرائيل” تريد السلام وتسعى إليه؟! من توهّم أنها ستقبل بدولة فلسطينية وتنسحب من الأراضي التي احتلتها؟! لماذا هذا العقم في العقل العربي؟! أهو سذاجة أم غباء أم استغباء! هل سمعتم مرة زعيماً او رئيس حكومة إسرائيلياً قال سراً أو جهارة إنه يقبل بدولة فلسطينية؟! إلى متى سيبقى العرب يحاورون أنفسهم وكأنّهم على كوكب آخر؟! في خطابه الذي ألقاه في حفل العشاء الختاميّ الذي ضمّ وزير خارجية مصر محمد إبراهيم كامل، ووزير خارجيّة الولايات المتحدة سيروس فانس، بعد اتفاقيّة كامب دايفد قال مناحيم بيغن رئيس وزراء “إسرائيل”: “إنّ العرب تمتعوا بحق تقرير المصير في إحدى وعشرين دولة، وهم يريدون أن ينشئوا دولة جديدة بتقرير المصير، ليقضوا على مصيرنا. إنّي أقولها صريحة عالية: لا لتقسيم القدس، لا للانسحاب إلى حدود 1967، لا لحق تقرير مصير الإرهابيّين”. (مذكرات محمد إبراهيم كامل: السلام المفقود).
ألم تقل غولدا مائير بُعيد حرب 1967 بقليل
وبكلّ وقاحة واستعلاء: “كيف يمكن لنا إعادة الأراضي المحتلة؟! ليس هناك من أحد نعيدها إليه”!.
بدوره موشي ديان قال: “إنّ الجيل الماضي، أنشأ دولة “إسرائيل”، والجيل الحاضر أحرز ما أحرزه في حرب 1967… فعلى الجيل القادم أن يأخذ المبادرة وينطلق عبر الحدود”!.
من المؤسف جداً أن يراهن القادة العرب على الدور الأميركي المنحاز والداعم كلياً لكيان الاحتلال، ولا يريدون أن يقتنعوا انّ واشنطن تقف الى جانب الاحتلال الإسرائيلي، وأنها على استعداد كلي لتضحي بهم، وبدولهم وشعوبهم في أيّ وقت تقتضي مصالحها ذلك. ألم يقل الرئيس الأميركي بعد وقت قصير من حرب 1967: “نحن لا نقول لدول أخرى كيف ترسم بينها الحدود التي توفر لكلّ واحدة منها أكبر قدر من الأمن. لكنه من الواقع إنّ العودة الى الوضع الذي كان سائداً في الرابع من حزيران 1967، لن يؤدي الى السلام”!.
لماذا يريد قادة العرب التمسك بمبادرتهم العقيمة، يستجدون في كلّ مرة “إسرائيل” على القبول بها، وهي لا تكترث بهم، ولا بمؤتمراتهم، ولا ببياناتهم؟! أليس الأجدر بزعماء العرب البحث عن حلول رادعة وما أكثرها، تحفظ ماء وجههم وكرامتهم وكرامة أمتهم !
عن أيّ دولة فلسطينيّة يتطلّع إليها قادة العرب من خلال مبادرتهم المرفوضة بالمطلق إسرائيلياً! بعد سنتين من مبادرتهم، هل قرأوا تصريح الناطق الرسميّ باسم رئيس الحكومة أرييل شارون، دوف ويسغلاس لجريدة هآرتس يوم 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2004، الذي كشف بوضوح نيات “إسرائيل” حول الدولة الفلسطينية بقوله: “إنّ معنى فك الارتباط بغزة، هو تجميد مسار السلام، وإنّ تجميد هذا المسار يعني منع قيام دولة فلسطينيّة، ومنع إجراء محادثات حول اللاجئين والحدود والقدس. نتيجة لذلك، فإنّ كلّ المسألة المسمّاة دولة فلسطينيّة مع كلّ ما يترتب عن ذلك ستسحب من جدول أعمالنا”!.
إلى متى سيظلّ العرب في موقع الوهم والضياع، والخنوع، والخضوع للآخر، فيما العدو يستمرّ في حروبه وسيطرته، واحتلاله للمزيد من الأراضي العربيّة!
يعلم جيداً زعماء العرب، أنه بعد غزة يأتي دور الضفة الغربية، ولبنان، وسورية، ومنها إلى ديارهم الواسعة، فما هم فاعلون عندما يقتحم العدو أسوارهم، ويصل إلى عقر دارهم. عندئذ أيّ راية سيرفعونها في وجه “إسرائيل”؟! أهي راية المقاومة والدفاع عن الأرض والشعب، أم راية المبادرة العربية للسلام، أم راية الذلّ والاستسلام؟! يبدو أنه لن يكون أمام زعماء العرب غير الراية الأخيرة التي لم تسقط من يدهم منذ نشوء دولة الاحتلال والعدوان وحتى اليوم، لا سيّما أنّ مجرم الحرب نتنياهو، وسّع من رقعة احتلال “إسرائيل” لأراض فلسطينية ولبنانية وسورية، وهو مصمّم على تحقيق حلم الدولة اليهوديّة وخريطتها التوراتيّة. إن لم يتمكن من تحقيق هذا في حياته، فهناك مَن سيتولى الأمر بعده، مثل ما فعل ليفي اشكول وموشي ديان بعد فترة دافيد بن غوريون في توسيع مساحة الاحتلال الإسرائيليّ عام 1967.
متى سيقول العرب كلمتهم، ويمسحون عن وجه أمتهم العار وذلّ الاحتلال المرير الذي تعايشوا معه 77 عاماً، لينتهي بهم المطاف إلى الهرولة للانخراط في المشروع الإبراهيميّ، في ظلّ احتلال إسرائيليّ متمادٍ لم يتوقف، وفي وقت تتوق فيه شعوب الأمة وتتلهّف لرؤية الفوارس والرجال!؟

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى