
منذ أن شُيِّدت قاعدة باغرام الجوية في ثمانينيات القرن الماضي على يد الاتحاد السوفييتي شمال العاصمة الأفغانية كابول، ظلّت هذه القاعدة بمثابة قلب نابض لكل غازٍ يتوهم أن السيطرة على أفغانستان ممكنة عبر القوة العسكرية. فهي ليست مجرد مدرجين للطائرات أو ثكنة عسكرية مترامية الأطراف، بل تختزل في داخلها قصة صراع الإمبراطوريات، من السوفييت الذين بنوها ليُحكموا قبضتهم على البلاد، إلى الأمريكيين الذين حوّلوها بعد غزو 2001 إلى جوهرة تاجهم العسكري والاستخباراتي في المنطقة.
إرث ثقيل من الغزاة
حين أقام السوفييت قاعدة باغرام، أرادوا منها أن تكون قاعدة انطلاق للهجمات الجوية، ومركزًا لوجستيًا قادرًا على دعم عشرات الآلاف من الجنود. لكنهم سرعان ما أدركوا أن هذه القاعدة، مهما بلغت ضخامتها، لا تكفي لحسم معركة على أرض يتنفس شعبها الحرية كما يتنفس الهواء. فكان الانسحاب المذل في أواخر الثمانينيات، تاركين وراءهم إرثًا من الدمار والعجز.
ثم عادت القاعدة لتنهض من تحت الركام مع الاحتلال الأمريكي. فقد ضخّت واشنطن مليارات الدولارات لتطويرها، فأنشأت فيها أكبر مستشفى عسكري في أفغانستان، ومراكز اتصالات متقدمة، وسجونًا سرية أصبحت لاحقًا رمزًا لوحشية الـCIA. لقد أرادت أمريكا أن تجعل من باغرام مرآتها الاستراتيجية: من هنا تتحكم في الطائرات المسيّرة، ومن هنا تدير شبكة التجسس على إيران وروسيا والصين وباكستان. لكنها، رغم كل ذلك، وجدت نفسها أمام الحقيقة ذاتها التي واجهها السوفييت: أفغانستان ليست أرضًا تقبل الغزو.
ليلة الهروب الكبير
في يوليو 2021، انسحبت القوات الأمريكية من باغرام كما ينسحب اللص في الظلام. لم يكن هناك وداع رسمي، ولا تسليم مرتب للسلطات الأفغانية، بل تركوا القاعدة في منتصف الليل، لتدخلها طالبان بعد ساعات وتسيطر عليها بالكامل. كانت تلك اللحظة تجسيدًا حيًا لانكسار الإمبراطورية الأمريكية في أرضٍ أبت إلا أن تُلقَّب عبر التاريخ بـ “مقبرة الغزاة”.
تصريحات ترامب… حلم العودة
لكن المشهد لم ينتهِ عند ذلك الحد. فمع عودة دونالد ترامب إلى الواجهة، بدأ يلوّح برغبة أمريكا في استعادة قاعدة باغرام، وكأنها مفتاح لمستقبل الهيمنة في آسيا الوسطى. ترامب يدرك أن هذه القاعدة تمنح من يسيطر عليها قدرة استثنائية على مراقبة أربع جبهات كبرى: إيران غربًا، باكستان جنوبًا، الصين شرقًا، وروسيا شمالًا. إنها بحق موقع استراتيجي على مفترق طرق القوى العظمى.
غير أن رغبة ترامب تصطدم بجدار صلب اسمه “الإمارة الإسلامية الأفغانية”. طالبان أعلنت بوضوح أن أفغانستان لن تكون أبدًا أرضًا مستباحة، وأن عودة أي قوات أجنبية هي خط أحمر يعني عودة المقاومة. بهذا، تتحول تصريحات ترامب من حلم باستعادة النفوذ إلى وهم جديد يُضاف إلى أوهام كل من حاول أن يطأ هذه الأرض دون رضا أهلها.
نتنياهو وأحلام الشرق الأوسط الجديد
هنا يظهر البُعد الثاني للمشهد. في الوقت ذاته الذي يتحدث فيه ترامب عن باغرام، يخرج رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليُبشّر بمشروع “شرق أوسط جديد” خالٍ من أي تهديد للكيان الصهيوني. يريد نتنياهو أن يرى المنطقة وقد أُعيد تشكيلها وفق مقاييس تل أبيب، حيث تُحاصر كل قوى المقاومة، وتُدمَّر أي قاعدة يمكن أن تشكّل خطرًا على التفوق الإسرائيلي.
لكن حين نضع تصريحات ترامب ونتنياهو جنبًا إلى جنب، ندرك أن هناك رابطًا غير معلن: كلاهما يحاول أن يرسم خريطة جديدة للعالم من بوابة القوة العسكرية. فترامب يرى في باغرام بوابة للهيمنة على آسيا الوسطى، ونتنياهو يتوهم شرقًا أوسط خاليًا من المقاومة. وكأن المشهد يُعيد إنتاج عقلية الاستعمار بأدوات القرن الحادي والعشرين.
أفغانستان والشرق الأوسط… وحدة الميدان
قد يبدو للبعض أن لا علاقة بين باغرام في أفغانستان وأوهام نتنياهو في فلسطين والمنطقة. لكن الحقيقة أن الرابط وثيق. فمن يسيطر على آسيا الوسطى يتمكن من خنق روسيا والصين وإيران معًا، ما يفتح الطريق أمام مشروع “شرق أوسط جديد” يخدم الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية. إنهما وجهان لعملة واحدة: قاعدة باغرام بوصفها “مطرقة” أمريكية، ومشروع نتنياهو بوصفه “وهمًا” يريد أن يُطوِّع المنطقة لإرادة الاحتلال.
لكن العقبة في الحالتين واحدة: الشعوب. فكما قاوم الأفغان السوفييت والأمريكيين حتى أسقطوهم، كذلك قاومت الشعوب العربية والإسلامية مشاريع الهيمنة، من سايكس–بيكو إلى صفقة القرن.
طالبان… الجدار الصلب
اليوم، طالبان ليست تلك الحركة المعزولة التي عرفها العالم في التسعينيات. إنها حكومة أمر واقع تسيطر على كامل التراب الأفغاني، وتفرض شروطها على القوى الدولية. وقد أثبتت أنها قادرة على إدارة البلاد وفرض الأمن. ومن ثم، فإن الحديث عن عودة أمريكية إلى باغرام ليس سوى وهم سياسي، تمامًا كما أن أوهام نتنياهو عن شرق أوسط خالٍ من المقاومة لا تعدو كونها أحلامًا في الهواء.
بين الوهم والواقع
المشهد إذن يكشف لنا عن حقيقتين متوازيتين:
• الأولى، أن أمريكا، رغم قوتها العسكرية، عجزت عن تثبيت قدمها في أفغانستان.
• الثانية، أن إسرائيل، رغم تفوقها العسكري، لم تنجح في فرض مشروعها على المنطقة.
باغرام اليوم ليست مجرد قاعدة عسكرية؛ إنها رمز لانكسار الغزاة أمام صلابة الشعوب. وشرق أوسط نتنياهو الجديد ليس سوى سراب يتلاشى أمام إرادة أمة تعرف كيف تُقاوم.
خاتمة
حين نقرأ تصريحات ترامب عن استعادة قاعدة باغرام إلى جانب أوهام نتنياهو عن شرق أوسط بلا مقاومة، ندرك أن التاريخ يعيد نفسه في مشهد ساخر: قوى عظمى تحلم بالسيطرة، بينما الأرض والشعوب تردّ بلغة واحدة: “هنا مقبرة الغزاة”.
فباغرام ليست مجرد قاعدة؛ إنها شاهد على أن من يظن أنه قادر على إخضاع الشعوب بالقوة، إنما يضع نفسه بين المطرقة والسندان… حيث تتحطم الأحلام وتتكشف الأوهام.