شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : شخصيات في حياتي محمد عبده . المعلم الأول وبذرة الحلم (٧)

في حياة كل واحد منا، هناك معلم أول لا يزول من الذاكرة، ولو انقضت العقود وتبدّلت الأزمان. بالنسبة لي، كان ذلك المعلم هو الأستاذ محمد عبده، أستاذ اللغة العربية والقرآن الكريم في مدرستي الابتدائية، الذي خطّ على لوح الطفولة أبجدية الحلم الأولى، وزرع في قلبي بذور الكرامة والحرية.

ما زلت أذكر صورته: سبورة خضراء، طباشير بيضاء، ووجهه الوقور تتوّجه سيماء الطربوش الأحمر، ربما كان آخر من ظل يرتديه في مصر. لم يكن الطربوش عنده مجرد زي، بل رمزًا لجيل من المعلّمين الكبار، يجمعون بين الهيبة والرحمة، وبين العلم والتربية.

كان يأتي إلى بيتنا أيضًا، بهمة الأبوة والصبر، ليعينني على حفظ القرآن، وليعلّمني أسرار العربية. كان صوته حين يتلو الآيات يزرع فينا مهابة الكلمة، ويجعلنا ندرك أن النص ليس حروفًا جوفاء، بل معنى يسكن القلب قبل اللسان.

ولم أكن تلميذه وحدي؛ بل مرّ على يديه كثيرون، ومن بينهم زميلي في المدرسة توفيق عكاشة، الذي تلقى مثلنا دروس القرآن واللغة العربية على يد هذا الرجل النبيل.

كان أقسى عقابه أن يحرمك من ابتسامته، وابتسامته كانت جائزةً أعظم من أي درجة. كان أبًا قبل أن يكون معلمًا، وصديقًا قبل أن يكون مربيًا.

لم يعلّمني اللغة فقط، بل علّمني أن العلم ليس للتلقين بل للإحياء، وأن القراءة حياة، وأن السؤال أحيانًا أهم من الإجابة. منه خرجت أولى خطواتي نحو الكتابة والفكر والسياسة.

تضافرت صورته مع صورة الإمام الأكبر محمد عبده، الذي قرأت لاحقًا فكره الإصلاحي. لم يكن تشابه الأسماء وحده هو الرابط، بل تشابه الرسالة: الأول غرس فيّ حب اللغة والقرآن، والثاني علّمني أن الدين لا يناقض العقل ولا يصادر الحرية.

كنت أرى في الإمام محمد عبده امتدادًا لمعلمي الأول؛ كلاهما جسّد معنى الإصلاح: إصلاح العقل بالدين، وإصلاح الدين بالعقل، وإصلاح الإنسان بالحرية. الاسم واحد، والرسالة واحدة: الحرية والكرامة.

وما لا أنساه أبدًا أن تلك الدروس الأولى زرعت في داخلي يقينًا مبكرًا، أن الإسلام يحتفي بالاختلاف، ويقدّس حرية الضمير. وكانت تلك القناعة تضيئها آية كريمة حفظتها صغيرًا:
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ… أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر – ٤٦).

علمتني تلك الآية أن الله وحده يحكم بين المختلفين، لا سلطان لبشر على ضمير بشر، ولا وصاية لفقيه أو حاكم على عقل إنسان. ومن هنا بدأت رحلتي مع قيم الحرية والليبرالية، بوصفها امتدادًا للإيمان، لا قطيعة معه.

وأضاءت كلمات سيدنا علي بن أبي طالب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “اختلاف أمتي رحمة”، هذا اليقين. ثم وجدت صداه عند عبد الرحمن الكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، وحسن العطار، وعبد الحليم محمود، فصار خط الإصلاح ممتدًا من مقعد المدرسة إلى مكتبة الفكر العربي والإسلامي.

لهذا، لم يكن انحيازي يومًا لقيم الحرية خروجًا على ديني، بل وفاءً لجوهره الأول: لا إكراه في الدين. ولم يكن إيماني بالاختلاف بدعة، بل التزامًا بأن الوحدة لا تقوم على القهر، بل على التنوع والعدل.

سيبقى أستاذي محمد عبده محفورًا في ذاكرتي، لا كأستاذ ابتدائي فحسب، بل كأبٍ روحي أول، وصاحب بذرة حلمٍ لا تزال تؤتي ثمارها حتى اليوم.

…وغدًا، أغادر صفحة الطفولة التي علّمتني الحروف، لأكتب عن صديقٍ عزيز.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى