
مع بدء العام الدراسي الجديد وتوافد براعم المستقبل على المدارس في رحلة تحصيل علمي شاق وطويل، وجب أن نتحدث عن دور المعلم التربوي قبل التعليمي في تنشئة الطالب، وأثر ذلك في نفسه على المدى الطويل، وكيف أن ذاكرة التلميذ في المراحل العمرية الأولى بالتعليم تكون شديدة الحفظ، وتستطيع استدعاء مواقف الماضي في المستقبل بسهولة ويسر، فلا ينسى مَن أحسن إليه وعلّمه بالحلم قبل أن يُعنّفه بالشدة، مَن كان له أب قبل أن يكون معلما.
بينما كنت أقلّب في موقع اليوتيوب أبحث عن فيلم وثائقي، إذ ظهر أمامي فجأة فيديو في قائمة الترشيحات العشوائية، كان الفيديو بعنوان “المعلم الإنسان” تركت الوثائقي في قائمة الانتظار ودخلت أسمع القصة، وهى كالآتي:
كان مدرسا في مادة اللغة الإنجليزية بإحدى مدارس العراق الحكومية، من بين تلاميذه ثلاثة طلاب فقراء جدا، لا يجهل المعلم حالتهم المادية والاجتماعية مقارنة بالبقية، يقول المعلم: كلما نظرت في وجوههم رأيت أمارات الجوع بادية عليهم، لهزال أجسادهم وتواضع ثيابهم، وهنا ابتكر المدرس حيلة تدريسية مختلفة لمساعدة هؤلاء الطلبة في كل حصة، كان يأتي بالطعام كل صباح وينادي عليهم بالتحديد، ثم يطلب من كل واحد منهم الأكل بدعوى أنه يشرح للطلاب بالإنجليزية كيفية تناول الطعام عمليا، وهو في الحقيقة يريد إشباع بطونهم الجائعة وحفظ كرامتهم، هنا انتهى الفيديو لكنه ترك أثرا في نفسي لا يزول.
كان درسا ظاهره عملي لكن باطنه رحمة وإنسانية وتربية أخلاقية رفيعة، قلما تجد لها نظير في واقعنا المعاصر، أطعمهم بكرامة وعزة نفس ولم يجرحهم بكلمة، قام بدوره الإنساني والأبوي قبل دوره التعليمي.
تأثرت كثيرا بالقصة ثم تذكرت قول الأديب النابغة مصطفى صادق الرافعي رحمه الله حين وصف المعلم فقال: “المُعلّم ثالث الأبوين فلينظر حين يأبو كيف يُعلّم”، يقصد بذلك أن المعلم يقوم مقام الأب والأم في ساحة العلم.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله: كنت لا أنجح في الدراسة إلا في الدور الثاني، حتى وصلت للمرحلة الثانوية فقال لي مدرس التاريخ: أنت عبقري يا عبدالوهاب! يقول المسيري: بعد هذه الكلمة تغيرت حياتي تماما، مع أني لا أدري هل اكتشفني فعلاً أم أنه كان من باب التشجيع وأنا صدقته، المهم أن النتيجة كانت واحدة فقد تغيرت حياتي منذ سماعي لتلك الكلمة، حتى أصبح موسوعة في العلم والمعرفة.
الدور الإنساني الذي يقع على عاتق المعلم يفوق في أهميته وخطورته الدور التعليمي الذي يقف عند التلقين والشرح، بل يتعداهما إلى التوجيه والإرشاد والدعم المعنوي الذي يّشكل سنادة قوية في تنشئة الطالب تنشئة سوية معتدلة تجعل منه قصة نجاح مرموقة في المستقبل، بعيدا عن الإهانات اللفظية التى تترك في نفس التلميذ جرحا غائرا لا تداويه الأيام، وذلك يتطلب تأهيل نفسي وفكري واجتماعي مناسب للمعلم لاحتواء التلاميذ ومراعاة أحوالهم، هُم ليسوا مجرد صناديق للتعليب والحشو بالغث والسمين، فالمدرسة هى البيت الثاني للتلميذ إما أن تصنع منه إنسانا سويا أو إنسانا كارها للعلم والمعلمين والحياة بأكملها.
وأذكر هنا قصة قديمة لأحد مدرسي الصف الابتدائي بمدرسة في ناحية نائية، بعيدة عن التحضر ورِكاب التقدم، عندما وقف أمامه أحد التلاميذ خائفا لملامحه العبوسة القاسية ونفسه المعقدة، لم يستطع الطفل الإجابة عن سؤال كأمر طبيعي يقع فيه أى طفل، قبل أن يباغته المدرس ببصقة في وجهه آلمته وظل أثرها باقيا في نفسه، ليته عاقبه العقاب التقليدي بالضرب على يديه بالعصا، بل أهان الطفل المسكين الذي لم يكن يملك أى شجاعة أدبية آنذاك ليدفع عن نفسه، ولا سند اجتماعي للرد المماثل على هذا المريض السيكوباتي، ومع تقدم الطفل في المراحل التعليمية المختلفة كان يضطهده ويحرمه من أى امتيازات مجانية.
مَن حكى لي تلك القصة قال: وبعد البحث والتقصى تبيّن أن هذا المدرس تربى يتيما يَصول هنا لسد رمق، ويجول هناك لاتقاء برد، عاش يطلب العطف ويستجدي الاهتمام، يمد يديه وعينيه لهذا وذاك لقضاء حاجة وبحثا عن دفء معنوي يعوضه ما فقد من حرمان، وهذا لا يعيبه في شيء، فالنبي الكريم كان يتيما ورباه عمه لكنه كان بالناس رؤوف رحيم، الغريب أن تلك الظروف القاسية لم تُهذّب في ذاك المعلم شيئا من الرحمة والإنسانية، بل أفرغ كل عقده على مَن هم أقل مِنه وأضعف، تحت غطاء التعليم، لإشباع ساديته وسدّ النقص الاجتماعي والجوع النفسي الذي عانى منهما كثيرا في صِغره.
تلك النماذج القميئة تسيء للعلم ومهنة المعلم، ولا ندري كم تلميذ بصق في وجهه بعدها وأهان كرامته، فهو ما زال يعمل في تلك المهنة المقدسة، لذلك وَجب على ولاة الأمر في كل مؤسسة تعليمية فحص كل مَن يتقدم إلى تلك المهنة نفسيا واجتماعياً، لكشف تلك النماذج المريضة لتلفظها الوزارة تلقائيا، وإبعادها إلى مكانها الطبيعى على الأسِرّة في عيادات الطب النفسي ومحاضن التأهيل الاجتماعي.
فإن لم يكن التعليم أداة تنشئة سوية ومعتدلة للطلائع من الأجيال فمن يكون إذن؟ فالتعليم هو اللبنة الأولى في تشكيل شخصية الإنسان، وبذرة الانطلاق نحو تشييد شجرة نجاحه في المستقبل، وهذا لن يتحقق إلا على يد معلمين قدوة أمناء وأسوياء، يُقدّرون المسؤولية وقيمة المعنويات في تربية الطالب.
قال لى من روى تلك القصة: في النهاية كبر التلميذ وردّ للمدرس بصقة الماضي بصقات، لكنها من نوع آخر، بصقات تفوقه ونجاحه وعلو قدره، أما المعلم فما زال يمارس طقوس الحرمان القديمة في اللف هنا والدوران هناك لإشباع نقصه الذي كبر معه وتربى على عُقده النفسية، لكن هذه المرة على أولياء أمور التلاميذ في التقليب والتهليب، فمتى يستقيم الظل والعود أعوج.







