مقالات وآراء

وائل مرزا يكتب: ومضات قدر بين المنافي والوطن

ثمة لحظات تنفذ من حدود الصورة إلى أعمق طبقات الروح، كأنها تدعونا للبحث عن معناها الخفيّ لا عن تفاصيلها الظاهرة.

فبعض الصور لا تُلتقط بعدسة الكاميرا، بل بعدسة الروح، لتتجاوز ملامح الوجوه وتكشف أسرار اللحظة. لحظات تختصر تاريخًا ثقيلاً في مشهد عابر، لكنها تترك في الوجدان أثرًا لا يزول.

هذه اللحظات لا تُقرأ بالأوصاف أو التفاصيل، وإنما بما توحي به من معنى أعمق؛ معنى اللقاء بعد طول غياب، والانحناءة التي تذيب مسافات المنافي، والدمعة التي تنطق بما تعجز عنه الكلمات.

عندها يصبح البحث عن المعنى ضربًا من الإصغاء لصوت خفي يقول: إن ما يجري أمام العين ليس صدفة، بل هو ومضة من قدر يُصاغ بين السماء والإنسان.

إنها لحظة تختصر نصف قرن من الألم والأمل؛ رئيس خرج من خنادق إدلب يقبّل، في فندق بأمريكا، رأس مواطن سوري لم يعد إلى وطنه منذ عام 1975، بينما كثيرون ممن ادّعوا الثورة تنقّلوا بين فنادق العواصم يبيعون الكلمات ويشترون الولاءات، دون أن يحملوا إلا الأوهام الباردة.

والمفارقة أن الرجل الذي قطع رأس الأفعى التي منعت هؤلاء من العودة، وُلد بعد رحيلهم بسبع سنوات، لكنه حمل جرحهم كجرحه، وقضيتهم كقضيته. فجاء اليوم ليعيد إليهم المعنى، وليحوّل حلمًا تكسّر في المنافي إلى واقع يلمسونه بدموعهم.

فالقبلة على رأس رجل مسنّ لم تكن مجرّد إيماءة إنسانية، بل رمز عميق كأنها قبلة على رأس جيل كامل عاش الغربة، لتقول له سوريا الجديدة: أنتم لم تُنسَوا، وإن جيلًا آخر حمل عنكم الشعلة في أصعب الظروف.

من خنادق إدلب إلى فنادق نيويورك، تتجسد العدالة التاريخية: أن الدماء والإيمان والعمل لا تذهب سدى، وأن قدر الله إذا كُتب لا يرده أحد.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى