
(في البحث عن الرؤية الجامعة وبناء الفعل المؤسّس)
بين مركزيتين: فلسطين والمشروع الإسلامي
لا تبدو العلاقة بين القضية الفلسطينية والمشروع الإسلامي علاقة تعارض أو تطابق تام. هي أشبه بخيوط متشابكة تتقاطع وتتشابك أحيانًا وتتباعد أحيانًا أخرى. لكن حين نفتقد رؤية شاملة تربط بين هذه الخيوط، هنا يحدث الخلل؛ يطغى جانب على حساب آخر وتختلط الأولويات وتضيع الطاقات بين اجتهاد مفرط هنا وتقصير فادح هناك.
فلسطين قلب المشروع الإسلامي، لكن حفظ القلب يقتضي بناء الجسد: رؤية تجعل المقاومة وظيفةً ضمن مشروع نهضوي، لا بديلًا عنه
أسر اللحظة وضياع البوصلة
في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتراكم الضغوط والانفعالات، أصبح من الضروري أن نتوقف لحظة، لا لننسحب من الواقع بل لنخرج من دوامة التفاعل العاطفي وننظر للأشياء بشكل أعمق وأشمل. لسنا بحاجة فقط إلى من يتألم لما يحدث في فلسطين، بل إلى من يعرف كيف يضع هذا الألم في سياقه التاريخي والحضاري، ويربطه بمشروع أوسع يعيد للأمة وجهتها ويمنح حركتها معنى.
من القضية إلى المشروع.. ومن المشروع إلى القضية
الانشغال الدائم بتفاصيل اللحظة دون إطار ينظمها ويحتويها يجعلنا أسرى للحدث، أسرى لردود الفعل. ومع الوقت يصبح الحماس بلا وجهة والقرارات بلا أسس، والمواقف منفعلة لا واعية. هكذا تمضي السنوات ونستهلك أعمارنا في الدوران داخل اللحظة دون أن يتكوّن لدينا مشروع حقيقي أو رؤية مركزية توجّه البوصلة.
حين تتحوّل فلسطين إلى كل المشروع ومن هنا جاءت إحدى الإشكاليات الكبرى في الخطاب الإسلامي المعاصر، حين تم اختزال المشروع الإسلامي كلّه في القضية الفلسطينية إلى الحد الذي باتت فيه فلسطين لا مجرد قضية مركزية، بل هي كل المشروع ومقياس جميع المواقف. مع أن فلسطين برمزيتها وقدسيتها وموقعها في الوعي يجب أن تكون جزءًا حيًّا من مشروع نهضوي شامل، لا أن تتحوّل إلى المشروع ذاته.
احتلال مشروع وظيفي استعماري وقد عبّر المفكر الراحل محمد عمارة عن هذه الإشكالية بوضوح حين قال إن إسرائيل تعلمت من فشل الحملات الصليبية فبنت نفسها كمشروع وظيفي يخدم الغرب لا مجرد دولة دينية. أما العرب فتعاملوا معها وكأنها مجرد احتلال عسكري يمكن طرده كما طُرد الإنجليز من مصر.
ويرى د. عبد الوهاب المسيري أن إسرائيل ليست دولة “عادية” بل أداة استعمارية زرعها الغرب لإبقاء الأمة في حالة شلل دائم. ولذلك فكل مقاومة لا تُبنى على مشروع حضاري مآلها التكرار والإنهاك.
حين نُقدّس فلسطين لدرجة أنها تبتلع كل القضايا فإننا لا نخدم فلسطين نفسها، بل نحاصرها داخل رمزية معزولة تُستنزف مع الزمن ولا تتحوّل إلى طاقة تغيير. وحين نفصل بين فلسطين والمشروع الإسلامي فإننا نتركها بلا سند ونترك المشروع بلا روح.
المقاومة تصبح فاعلة حين تندمج في آليات واضحة: تربية منهجية في المدارس والجامعات، اقتصاد بدائل ومقاطعة منتجة، ودبلوماسية ثقافية تُعيد القضية إلى الرأي العام العالمى
هذا الانفصال بين المقاومة والمشروع التربوي والبنائي الأكبر يُضعف فرص النهوض الحقيقي للأمة ويحوّل القضية الفلسطينية من بوابة للنهضة إلى ساحة مواجهة تكاد تكون معزولة عن بقية ساحات الإصلاح والتطوير. لذلك علينا أن نعيد النظر في العلاقة بين المقاومة والبناء بحيث لا تكون المقاومة غاية منفصلة ولا مشروعًا ذاتيًا، بل وسيلة من أدوات المشروع الإسلامي الذي يعيد الحياة للأمة ويربط الفعل النضالي بفهم حضاري شامل ومشروع له أفق مستقبلي استراتيجي.
التجارب التاريخية : من 1948 إلى 7 أكتوبر محاولات الإخوان المسلمين في حرب 1948 أو مواقف الرئيس مرسي تجاه غزة رغم أهميتها لم تُستكمل ولم يُبنَ عليها، وإن كانت تمثل رصيدًا عمليًا للفكرة في مراحل مفصلية، لكنها كانت ردود أفعال على أحداث ولم تكن صناعة حدث في إطار مشروع شامل.
والمثال الأوضح هو 7 أكتوبر: عملية عظيمة في التخطيط والتنفيذ، لكن نتائجها جاءت عكسية لأن القراءة الصهيونية لها في العالم كله اعتبرتها بداية معركة تحرير وليست عملية محدودة لإدارة ملف الأسرى. ولو أن مثل هذه العملية جاءت في إطار مشروع واضح المعالم لكان من الممكن توظيفها لتغيير موازين القوى بدل أن تتحول إلى مبرر لحرب استنزاف كبرى.
الرؤية هنا تتعلّق بكيفية إدارة ما بعد الحدث وتوظيفه سياسيًا وإعلاميًا، لا بتقويم شرعية مقاومة الاحتلال.
المقاومة والبناء.. جناحان لا ينفصلان
المقاومة يجب أن تكون جزءًا من المشروع وليست هي المشروع نفسه. فقيام دولة إسرائيل لم يكن هو ما أسقط الأمة، بل كان نتيجة طبيعية لسقوط الدولة العثمانية، أي ثمرة من ثمرات انهيار الدولة الإسلامية. الأمر كان جزءًا من مشروع غربي أكبر، لا العكس، وهذا المشروع هو الحامي الفعلي للكيان وجعله خنجرًا دائم الطعن في جسد الأمة.
صحيح أن الكيان بؤرة خبيثة لكنه لم يتمكن إلا بعد ضعف الجسد.
وأتحفظ على وصفه بالسرطان، لأن علاج السرطان غالبًا يكون باستئصال الجزء المصاب، بينما هذا الكيان كيان متضخم يتم تضخيمه من الخارج وليس متأصلًا أو متجذرًا في الأرض أو في وعي الشعوب الإسلامية.
نحو رؤية تكاملية ونهضة شاملة
هنا تكمن الخطورة الحقيقية مع مرور الأجيال. وإن كنت أشبّهه بـ”ورد النيل” بلا جذور، لكنه يحجب الضوء والهواء ويخنق الحياة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى مشروع تكاملي: مقاومة واعية، وبناء متواصل، ووعي جديد لا يرى في فلسطين نهاية الطريق بل بدايته.
خاتمة: فلسطين بداية الطريق وليست نهايته
فلسطين في قلب المشروع الإسلامي هي اختبار صعب لنبض الأمة، لكنها ليست كل النبض. من يجعلها كل شيء يخسرها ويخسر المشروع معها.
نحن لا نحتاج إلى الاختيار بين المقاومة والبناء، بل إلى أن نقاوم ونحن نبني ونبني ونحن نعي جراحنا. حين تتكامل الرؤية تُوجّه الطاقات بدل أن تُبدد، وتتحوّل التضحيات إلى بناء حقيقي. حينها فقط يمكن أن نقول إننا في طريق نهضة تبدأ من فلسطين… ولا تتوقف عندها.