مقالات وآراء

محمد الباز يكتب: الدروس الاستراتيجية من هجمات إسرائيل على قطر


في تطور جديد للأحداث المتسارعة منذ السابع من أكتوبر في الشرق الأوسط، قصفت القوات الجوية الإسرائيلية مقرا لقيادات حركة حماس في الدوحة عاصمة قطر، ما أسفر عن سقوط عدد من الشهداء، بينما نجا المستهدفون الرئيسيون من عملية الاغتيال.

لا تقتصر أهمية هذا التطور على نتائجه المباشرة في مسار الحرب وسياسات الإقليم، بل تكمن أيضا في كونه حدثا كاشفا لطبيعة العلاقات الدولية في المنطقة، وفرصة لاستخلاص دروس استراتيجية مهمة، خصوصا لدول الخليج العربي.

أزاحت أحداث السابع من أكتوبر منطقة الشرق الأوسط نحو مستوى أعمق من الفوضى والقلق الأمني، وهو ما يدفع الكيانات المهددة بمعضلة الأمن إلى المزيد من الوحشية في الهجوم سعيا للبقاء والحفاظ على الذات.

وفي هذا السياق، تصبح عملية استخلاص الدروس الاستراتيجية من هذا الحدث أمرا ضروريا لفهم ديناميكيات القوة في المنطقة.

ينظر هذا المقال من عدسة الواقعية الهجومية، حيث يجادل رواد هذه المدرسة أن النظام الدولي فوضوي، وأن الدول لا يمكنها الركون إلى القانون الدولي أو النوايا الحسنة لحماية أمنها، بل يجب أن تعتمد على قدراتها الذاتية لتعزيز فرصها في البقاء. من هذا المنطلق، نسعى للإجابة على عدة أسئلة محورية:

هل تكفي التحالفات القوية لحماية الدولة؟

ما هي حدود النفوذ الدبلوماسي في تعزيز قوة الدولة؟ هل امتلاك أسلحة حديثة يعني بالضرورة قوة عسكرية فعالة؟

الدول الصغيرة، مهما بلغت ثروتها أو تقدمها التقني، تحتاج إلى عمق استراتيجي لا يمكن توفيره إلا من خلال التكامل مع جيرانها الطبيعيين.

وهنا تبرز أهمية مجلس التعاون الخليجي ليس فقط كمنصة للتنسيق الاقتصادي، بل كضرورة وجودية لبناء قوة جماعية قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية
الرفاهية لا تعني القوة

تتمتع غالبية دول الخليج العربي بمستويات دخل مرتفعة ومعدلات رفاهية عالية وعوائد مالية ضخمة، إلا أن هذه المؤشرات لم تُترجم بالضرورة إلى عناصر قوة أساسية للدولة، حيث تتجه نسبة كبيرة من الإنفاق الفردي نحو الاستهلاك الاستعراضي، ويمارس المواطن في هذه الدول أشرس سلوكيات الاستهلاك عالميا، في نفس الوقت توجه هذه الدول الكثير من عوائدها إلى استثمارات خارجية ومشاريع عقارية، بينما تبقى الكثير من عناصر قوة الدولة مثل الجيش والاقتصاد الإنتاجي بعيدة جدا عن المعدلات العالمية.

تمتلك دولة قطر ثالث أكبر احتياطي غاز طبيعي في العالم وأسطولا من الأكبر عالميا لتصدير الغاز المسال، ويتمتع مواطنوها بمستوى رفاهية وتعليم وصحة وبنية تحتية من الأفضل عالميا، إلا أنها تفتقر إلى المقومات الأساسية للدولة القوية.

فمساحتها المحدودة للغاية 11,437 كيلومتر مربع، وعدد سكانها القليل جدا 3 مليون نسمة تقريبا، لا يدعمانها لتبوء أي مكانة حقيقية في النظام العالمي الجديد، مهما بلغت ثروتها أو تطورت بنيتها التحتية.

في ظل هذه القيود الجيوسياسية والديموغرافية، تصبح الحاجة إلى التعاضد الإقليمي والتحالفات العضوية مع الدول المجاورة أمرا حيويا لا مفر منه.

فالدول الصغيرة، مهما بلغت ثروتها أو تقدمها التقني، تحتاج إلى عمق استراتيجي لا يمكن توفيره إلا من خلال التكامل مع جيرانها الطبيعيين.

وهنا تبرز أهمية مجلس التعاون الخليجي ليس فقط كمنصة للتنسيق الاقتصادي، بل كضرورة وجودية لبناء قوة جماعية قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية.

تختلف التحالفات العضوية جوهريا عن التحالفات التكتيكية المؤقتة، فهي تقوم على المصالح المشتركة طويلة المدى والهوية الثقافية المتقاربة والتحديات الأمنية المشتركة.

تواجه دول الخليج تهديدات متشابهة وتملك موارد متكاملة وتحديات ديموغرافية مماثلة، مما يجعل التكامل بينها ليس مجرد خيار استراتيجي، بل ضرورة حتمية للبقاء في نظام دولي يتسم بالفوضوية وهيمنة القوى الكبرى.

الأسلحة الحديثة لا تعني قوة عسكرية شاملة

تُعد منطقة الشرق الأوسط من الأكبر عالميا في معدلات شراء الأسلحة، لا سيما الدول الخليجية التي تتمتع ترسانتها العسكرية بأسلحة حديثة نسبيا.

تشغل دولة قطر حاليا 36 مقاتلة رافال، و24 مقاتلة يوروفايتر تايفون وتعاقدت على 12 طائرة إضافية، إلى جانب أسطول من 48 مقاتلة “F-15QA”، دخلت الخدمة منها حتى الآن نحو 36 طائرة.

وتمتلك ترسانة كبيرة ونوعية من أنظمة الدفاع الجوي ورادارات الإنذار المبكر، من أبرزها رادار الإنذار المبكر الأمريكي المتطور “AN/FPS-132″، الذي يُعد فريدا من نوعه في منطقة الشرق الأوسط ويصل مداه إلى نحو 4800 كيلومتر.

لكن هل يُعد امتلاك هذه الأسلحة كافيا كمؤشر للقوة العسكرية؟

عانت السعودية والإمارات خلال حربهما على جماعة الحوثي في اليمن من الصواريخ التي استهدفت العمق السعودي ونجحت في اختراق منظومات الدفاع السعودية أكثر من مرة، كما عانت السعودية من نفاد مخزونات صواريخ بطاريات باتريوت أكثر من مرة.

كما استهدفت الصواريخ العمق الاماراتي عدة مرات، إلا أن السلطات الإماراتية انتهجت النفي في كل مرة.

تتشكل القوة العسكرية الحقيقية للدول من مزيج متجانس من منظومة القيادة والسيطرة والقوات المدربة والآليات المتطورة ومنظومات سلاسل الإمداد والتموين المستقرة والتكامل السلس بين هذه المكونات.

تُعد القوة العسكرية الفعالة من أهم مقومات قوة الدولة الأساسية وأحد أهم أدوات الفـعل الســياسي في منطقة ملتهبة -الشرق الأوسط- تتحدد فيها خطوط النفوذ والقوة من خلال أدوات القسر والقهر.

وهنا تبرز أهمية القوة العسكرية الجماعية كبديل حيوي للدول الصغيرة التي لا تستطيع بناء قدرات عسكرية شاملة بمفردها.

فبينما قد تعجز دولة واحدة عن تطوير كامل عناصر القدرات العسكرية الحديثة، يمكن لمجموعة دول متعاضدة إقليميا أن تبني منظومة دفاعية متكاملة، حيث تتخصص كل دولة في جوانب معينة وتتكامل مع الآخرين.

هذا النموذج يتطلب توحيد العقائد العسكرية، وتنسيق أنظمة التسليح وتصنيعها، وتطوير آليات القيادة والسيطرة المشتركة، وبناء شبكات استخبارات متكاملة.

التحالفات والقدرات الأساسية

سياسيا، تُصنف الدول الخليجية ضمن المعسكر الأمريكي في النظام العالمي، رغم ما تبنيه من علاقات اقتصادية قوية مع الشرق (الصين وروسيا والهند)، إلا أن العلاقات الخليجية الأمريكية، رغم ما يعتريها من فتور أحيانا، تُعد من الأقوى عالميا.

قدمت دول الخليج للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تريليونات الدولارات خلال زيارته لدول الخليج في بداية فترته الرئاسية الثانية؟

وتتمتع قطر بعلاقة خاصة مع أمريكا، فهي تحتضن أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، واستقبل أمير قطر لأول مرة في تاريخ دولة عربية وزيريّ خارجية ودفاع أمريكا بلينكن وأوستن بعد انسحاب أمريكا من أفغانستان في جلسة واحدة.

تُعد التحالفات الخارجية أحد أهم معززات قوة الدولة، لكنها مهما بلغت أهميتها -حتى لو مع أقوى دولة في العالم- لا تكفي لتوفير الحماية للدولة، إن قوة الدولة الحقيقية لا تنبع إلا من قدراتها الأساسية: الجيوسياسية والديموغرافية والعسكرية والاقتصادية.

تجادل الواقعية السياسية بأن الدول تسعى إلى البقاء في عالم فوضوي تحكمه قوى تتصارع على مساحات الموارد والنفوذ، وتوظف التحالفات الخارجية لتحقيق هذه المصالح.

المفارقة، أن هذه التحالفات التي قد تكون أحد معززات قوة الدولة قد تقوض قوتها عندما تكون مع قوى غير متكافئة بشكل كبير، وهو ما ينتج معادلات التبعية والاحتواء دون قدرة تُذكر للممانعة أو الرفض.

فالتحالفات غير المتكافئة تكرّس علاقات التبعية وتقيّد قدرة الدولة على اتخاذ قرار مستقل، خاصة في اللحظات الحاسمة.

أوهام النفوذ الدبلوماسي وحدود القوة الناعمة

لطالما اعتمدت بعض دول الخليج على أدوات النفوذ الدبلوماسي مثل الوساطة والاستثمارات الخارجية والإعلام الدولي كوسائل لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.

استثمرت قطر بكثافة في هذا المجال، من خلال قناة الجزيرة وصندوقها السيادي الضخم ودورها في الوساطة الإقليمية، كما نسجت شبكة علاقات مع حركات شعبية مثل الإخوان المسلمين، إضافة إلى استضافة كأس العالم كأداة للقوة الناعمة.

لكن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة يبرهن أن هذه الأدوات، على أهميتها، لا يمكن أن تعوّض غياب عناصر القوة الصلبة.

في بيئة إقليمية فوضوية ومشحونة بالصراعات، تظهر القوة العسكرية وقدرات الدولة الصلبة كأدوات حاسمة، فيما يبقى النفوذ الدبلوماسي هشا أمام اختبارات الواقع القاسية.

تكشف هذه التجربة أن حدود النفوذ الدبلوماسي تضعف بوضوح عندما تصطدم بالمصالح الحيوية للقوى الكبرى أو عندما تتصاعد التوترات إلى مستوى الصراع المسلح.

فالقوة الناعمة، مهما بلغت فعاليتها في أوقات الاستقرار، تحتاج دائما إلى ظهير من القوة الصلبة لحمايتها والحفاظ على تأثيرها.

القوة الناعمة، مهما بلغت فعاليتها في أوقات الاستقرار، تحتاج دائما إلى ظهير من القوة الصلبة لحمايتها والحفاظ على تأثيرها

خاتمة

تكشف تجربة القصف الإسرائيلي لقطر عدة حقائق قاسية لا يمكن تجاهلها.

أولا، أن رفاهية الشعوب أو امتلاك أحدث الأسلحة أو بناء شبكات النفوذ الدبلوماسي ليست دليلا كافيا على قوة الدولة، أو ضمانة حقيقية لأمن الدولة في نظام دولي فوضوي.

ثانيا، أن التحالفات الدولية، رغم أهميتها، تظل مشروطة ومحدودة، ولا تغني عن بناء القدرات الذاتية. ثالثا، أن القوة الحقيقية تتطلب مزيجا متوازنا من القدرات العسكرية والاقتصادية والديموغرافية والجيوسياسية.

بالنسبة لقطر، لا يمكن تجاهل أهمية القوة الناعمة وضرورة الاستمرار في تعزيزها، مع مراعاة سياقات السياسة الإقليمية وخاصة السياسات الخليجية، فالدرس الاستراتيجي من حصار قطر داخل الإقليم وفي مجلس التعاون الخليجي، يُظهر أهمية القوى الناعمة لقطر، وكذا أهمية التعاضد بين دول مجلس التعاون الخليجي والدول الإقليمية الأقرب على أهمية التحالفات الدولية الأكثر تعقيدا.

فالدرس الأساسي من هذه التجربة أن الأمن الحقيقي لا يُشترى بالمال ولا يُضمن بالتحالفات وحدها، بل يُبنى بالعمل الجاد والاستثمار طويل المدى في عناصر القوة الشاملة التي تمكّن الدولة من حماية نفسها والدفاع عن مصالحها في عالم لا يرحم.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى