د. أيمن نور يكتب : شخصيات في حياتي المصطفيان شردي وأمين من الوفد لقناة الشرق (٩)

في دفتر العمر، هناك أسماء لا تُكتب بالحبر وحده، بل بدمع القلب وملح التجربة. ومن بين هؤلاء رجلان لا أنفصل عنهما في ذاكرتي: مصطفى شردي فارس المعارضة، ومصطفى أمين معلم الصحافة والإنسانية.
هما “المصطفيان” اللذان شكّلا لي مدرسة ممتدة، أستحضر صورتهما كل يوم خلال 12 عاما في قناة الشرق، وفي موقع أخبار الغد، وقبل ذلك في جريدة الغد اليومية التي أصدرتها في مصر عام 2004.
بدأت حكايتي مع الأستاذ مصطفى شردي بداية متوترة.
ففي 1984، قبل صدور العدد الأول من جريدة الوفد، طلب شردي من فؤاد باشا سراج الدين وقف جريدة “الوفد الجديد” التي كنت أرأس تحريرها. كان يرى أن الاسم قد يلتبس بين “الوفد” و”الوفد الجديد”، وكان محقًا في هواجسه.
بقرار من مجلس إدارة الجريدة، الذي ضم إبراهيم باشا فرج وعصام عيسوي ومدحت الهرميل وحنان البدري ومؤمن رشاد وعصام حنفي،
غيّرنا الاسم إلى “شباب الوفد”. سرعان ما أثارت الجريدة الجديدة ضجة. فكتب موسى صبري مقالات يهاجمنا، في نفس الوقت طلب شردي مجددا من الباشا وقفها نهائيًا.
لجأت إلى أستاذي مصطفى أمين، الذي دعمنا ماليًا لدى مطابع أخبار اليوم. فهمس لي يا أيمن أنت صحفي موهوب: «والصحافة يا ولدي لا تقاس بالسن، أو الموقع بل بصدق الكلمة.» وبعد نقاش طويل، اقترح أمين أن نندمج مع فريق شردي، لنصير جزءًا من التجربة الأكبر: صحيفة الوفد. وهكذا دخلت إلى مدرسة شردي من باب كان يوصد، فإذا به يتحوّل إلى نافذة أمل.
في البداية كانت العلاقات بيننا وبين فريق شردي، خصوصًا القادمين من جريدة الاتحاد الإماراتية مثل الراحل جمال بدوي، متوترة. لكن مع الوقت، صارت المنافسة المفتوحة مدرسة في حد ذاتها.
فضلا أنه بالنسبة لجريدة شباب الوفد لم يكن لدينا تمويل، ولا موارد. فأصدرنا أعدادنا من فندق إيفرست في ميدان رمسيس، وكنت أسدد الديون من مصروفي العائلي ومن مساهمات مهندس عصام عيسوي. كان حماسنا هو رأس المال، واندفاعنا هو التمويل الحقيقي.
أحد الأعداد صادف امتحاناتنا الجامعية. لم نستطع كتابة المقالات أو إخراج الصفحات. تولّى عصام حنفي رسم العدد كاملًا بالكاريكاتير. كان عددًا تاريخيًا: كل صفحة لوحة، وكل لوحة مقال. كان برهانًا أن الإبداع يولد من رحم العجز.
انضممنا إلى الوفد بقيادة شردي، وبدأنا نحضر اجتماعات التحرير في قصر فؤاد باشا. كانت غرفة السفرة في الدور الأرضي تتحول إلى قاعة تحرير كبرى، يجلس فيها محمد عبد القدوس ومجدي مهنا ومجدي سرحان ومحمد الشربيني، ومعهم الراحل سعيد عبد الخالق، فضلًا عن عباس الطرابيلي وجمال بدوي.
بعد شهور من التوتر، اكتشفت أن شردي ليس خصمًا بل أبًا. كان يحترق مع كل كلمة يكتبها، ويقول لنا دائمًا: «الصحافة نار، من يقترب منها يتوهّج، لكنه قد يحترق.»
صحته المرهقة وقلبه المعتل أجبره على البقاء في مكتب صغير في الدور الأرضي من المقر، لكنه حوّله إلى مدرج مفتوح لتعليم الصحافة الحرة. تعلمنا هناك أن الصحافة موقف قبل أن تكون خبرًا.
ولجيل قد لا يعرف الكثير عن الراحل الكبير فقد ولد مصطفي النحاس شردي في بورسعيد عام 1934. ورث المهنة عن والده، مراسل جريدة المصري الوفدية، ثم أصبح هو مراسلًا لأخبار اليوم. في العدوان الثلاثي 1956، صوّر مشاهد نقلها مصطفى أمين للأمم المتحدة بأمر من عبد الناصر، لتفضح بشاعة العدوان.
آل شردي ثلاثة أجيال: أبوه رائد المهنة، الابن مصطفى شردي فارس المعارضة، والأحفاد الأبناء الثلاثة لمصطفي شردي: أيمن شردي (رحل مبكرًا)، توأمه إبراهيم شردي (ظلّ جريح لهذا الفقد)، ومحمد شردي الذي عمل بالصحافة لكنه لم يرث من أبيه وجده إلا الاسم.
فمحمد شردي مختلف، لم يحمل من ميراث أبيه إلا القليل. من كثير لم يقو يوما على حمله فلا تظلموا الأب بالخلط بين اسم الأب والابن مهما تشابهت الحروف.
في السبعينيات أسس مصطفى شردي صحيفة الاتحاد في الإمارات، فكان من رواد الصحافة الخليجية الحديثة. ثم عاد ليقود معركة الكلمة من مصر. وعندما قرر الباشا إصدار الوفد، كان مصطفى أمين هو من رشحه لرئاسة التحرير بعد أن اعتذر هو عن المنصب. أمين سلّم المشعل لتلميذه، وشردي سلّم الدفء لتلاميذه.
وهذا ما تعلمت من هذه المدرسة وأحاول أن أطبقه في قناة الشرق وأي تجارب صحفية وإنسانية.
قاد شردي صحيفة الوفد بشجاعة، وحوّلها لأول صحيفة معارضة يومية. ارتفع توزيعها، وصارت مدرسة للوطنية والحرية. وكان يقول لنا: «الجريدة ليست ورقًا يُطبع، بل وطنًا يُكتب.»
تحت قيادته، تعلمنا أن الصحافة صناعة لا تقل عن صناعة السيوف. كان يردد: «الصحافة مهنة الدم والعرق، لا مهنة الرفاهية.»
واليوم، وأنا أجلس أمام شاشة قناة الشرق، أو أكتب في موقع أخبار الغد، أستحضر صورته مع صورة أستاذه مصطفى أمين. تجاربي الإعلامية كلها مدينة لشجاعة شردي وحرفية أمين: جريدة الغد في 2004، ثم الشرق وأخبار الغد منذ 12 عاما وإلى اليوم.
كانا معًا “المصطفيان”؛ الأول فارس المعارضة، والثاني معلم الإنسانية. بهما تعلمت، وبهما صغت تجربتي. برحيل شردي، فقدت الصحافة المصرية فارسًا صادقًا، لكنه ترك مدرسة باقية، ودروسًا تتناقلها الأجيال.
…وفي الحلقة القادمة، أكتب عن رفاق آخرين من دفتر العمر، لنُبقي الذاكرة حيّة، والحرية يقظة، والوفاء حاضرًا.
أكتب عنهم ليبقى أثرهم، وعن نفسي لأبقى وفيًّا لهم.



