
في عام 2010، قبل أسابيع قليلة من ثورة يناير، التقيت الصحفي البريطاني ديفيد هيرست في فندق الكومودور ببيروت، لقاءً لم يكن صدفة عابرة، بل موعدًا لإجراء حوارا صحفيًا بيننا.
كنتُ أستعد لحوار تقليدي، فإذا به يبدأ المقابلة بسؤال غير تقليدي أبدًا: من الذي يحلق لمبارك؟ بدا لي السؤال أقرب إلى طرفة أو زلة لسان، فأعدت النظر إليه مرتبكًا، منتظرًا أن يوضح. لكنه كرره بصرامة وبنظرة نافذة، وكأنّه يفتح من السؤال بابًا آخر للحقيقة.
لم يكن يقصد الحلاقة بالمعنى المباشر، بل كان يريد أن يقول: من يضع اللمسة الأخيرة على عمر هذا الحكم؟ من ينهي المعادلة الطويلة التي استمرت ثلاثين عامًا؟
لم يكن يسأل عن بقاء مبارك، بل عن نهايته القريبة، عن اليد التي ستضع النقطة الأخيرة في سطر النظام. كان السؤال صادمًا، لأنني لم أكن أملك جوابًا، لكنه بدا كمن يستشرف ما سيحدث بعد أسابيع، كأنّه يقرأ مصر وهي تقف على أعتاب ثورة لم تعلن عن نفسها بعد.
لم يكن هيرست مراسلًا عابرًا ينقل الأخبار، بل شاهدًا على زمن كامل.
حمل قلمه منذ ستينيات القرن الماضي في ذا غارديان، ثم وزّع فكره على منابر أخرى كـ كريستيان ساينس مونيتور وديلي ستار. لكن الأهم أنه لم يكتب يومًا ليُرضي، بل كتب ليكشف. حين ألّف كتابه “البندقية وغصن الزيتون”، قدّم وثيقة فاضحة لجذور الاستعمار في فلسطين، وكسر هيبة الرواية الغربية والإسرائيلية التي أريد لها أن تكون حقيقة مطلقة.
بيروت كانت مسرحه الأوسع وموطن غربته الأعمق.
عايش الحرب الأهلية، ونجا من الخطف والمنع، ومع ذلك بقي وفيًا لها حتى رحيله. كتب عن لبنان “احذروا الدول الصغيرة”، ليكشف أن صِغر المساحة لا يحمي من كِبر المأساة. وحين كتب عن عرفات والأسد وصدام، كان كمن يرفع الغطاء عن قدور تغلي، بلا وجل من الدخان ولا من النيران.
لكن تلك الجلسة في الكومودور عام 2010 تبقى محفورة في ذاكرتي، لأنها لم تكن مجرد حوار صحفي، بل أشبه بدرس في استشراف التاريخ.
كان هيرست يرى أن مبارك يقترب من نهايته، لا من استمراره، وأن حكاية ثلاثين عامًا على وشك أن تُطوى. لم أقل شيئًا يومها، لكنه قال كل شيء بنظرته وسؤاله. وبعد أسابيع، حين امتلأت شوارع القاهرة بالغضب، أدركت أن سؤاله لم يكن غريبًا، بل كان أقرب إلى نبوءة تختصر زمنًا بأكمله.
منذ ذلك اللقاء، نمت بيننا صداقة وود، لم تقف عند حدود المهنة.
كان رجلًا يعرف كيف يُصغي، وكيف يُصدمك بسؤاله، وكيف يترك فيك أثرًا لا يمحوه الزمن. وحين رحل يوم الاثنين، 21 سبتمبر 2025، عن تسعين عامًا، شعرت أن شاهدًا من شهود زمننا قد غاب، وأن صديقًا كان يشاركنا حمل الحقيقة قد أسلم قلمه للنهاية.
أكتب إليك اليوم يا ديفيد كرسالة وداع: لم تكن مجرد صحفي غربي عابر، بل كنت رفيق سؤال غيّر نظرتي إلى لحظة كاملة.
علّمتني أن الصحافة ليست إعادة سرد لما جرى، بل بحث عمّا سيجري. وأن السؤال قد يكون أحيانًا أقوى من الثورة ذاتها. سلام عليك، يوم طرحت السؤال، ويوم رحلت عن الدنيا، ويوم تعود أسئلتك لتشهد على أن الكلمة الصادقة لا تموت، حتى لو مات صاحبها.
رحلت يا ديفيد، لكن بقيت نبوءتك ترفرف في الذاكرة كراية خفية: أن النهاية ليست قرار الحاكم، بل قرار الشعب.
وأن الثورة حين تندلع، تبدأ دائمًا بسؤال بسيط، يوجّه في لحظة صدق، ويهزّ أركان الصمت حتى ينهار.