
ثلاثة عقود كاملة تفصل بين عام 1993، الذي شهد التوقيع على اتفاقية أوسلو، وعام 2023، الذي وقع فيه “طوفان الأقصى”، وهي فترة طويلة بما يكفي لاختبار جدوى وفاعلية السياسات المستخدمة في إدارة الصراع.
شهدت الساحة الدولية خلال الأسابيع الأخيرة زخماً ملحوظاً، استهدف تأكيد حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وسعى لتوسيع نطاق الاعتراف الدولي بهذا الحق. وقد بلغ هذا الزخم ذروته يوم الاثنين الماضي (22/9/ 2025) بانعقاد “مؤتمر حل الدولتين” على هامش الدورة الرقم 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
تنبع أهمية انعقاد مؤتمر حل الدولتين من عاملين أساسيين، الأول: أنه جاء بعد أيام قليلة من صدور إعلان تضمن خارطة طريق لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران/يونيو عام 67 عاصمتها القدس الشرقية (إعلان نيويورك)، ووافقت عليه 142 دولة، أي ما يقرب من ثلاثة أرباع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. والثاني: أنه جاء في سياق تحول تاريخي طرأ على موقف الدول الغربية من القضية الفلسطينية، جسّده اعتراف أكثر من عشر دول بالدولة الفلسطينية المستقلة، منها المملكة المتحدة وفرنسا وكندا وأستراليا ودول أخرى.
صحيح أنه سبق لهذه الدول العشر أن عبرت علناً عن تأييدها “حل الدولتين”، لكنها لم تجرؤ على الاعتراف رسمياً بالدولة الفلسطينية، واشترطت للقيام بخطوة كهذه توصل الفلسطينيين والإسرائيليين إلى اتفاق مسبق حول حدود ومقوّمات هذه الدولة، من ناحية، وعدم اعتراض الولايات المتحدة على قيامها، من ناحية أخرى. ولأنها أصبحت الآن على يقين تام من استحالة تحقق هذين الشرطين، بسبب موقف كل من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الرافض لحل الدولتين”، فقد حسمت أمرها وقررت الاعتراف رسمياً بالدولة الفلسطينية المستقلة، رغم كل ما قد يؤدي إليه هذا القرار من تعقيدات.
لا يحتاج الشعب الفلسطيني إلى اعتراف من أحد لإثبات حقه في إقامة دولته المستقلة، فقد سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 أن اتخذت قراراً بتقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين إحداهما لليهود والأخرى للفلسطينيين (القرار 181)، ما يشكل اعترافاً قانونياً واضحاً وصريحاً بهذا الحق. صحيح أن الشعب الفلسطيني رفض قرار التقسيم، بسبب ما انطوى عليه من إجحاف شديد بحقوقه التاريخية غير القابلة للتصرف، غير أن هذا الرفض لا ينتقص مطلقاً من حقوقه القانونية الثابتة على هذا الصعيد، والتي رسخها المجتمع الدولي ممثلاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وحين أقدم بن غوريون على إعلان قيام “دولة إسرائيل” من جانب واحد عام 1948، استناداً إلى الحدود المرسومة في قرار التقسيم، انطوى هذا الإعلان على اعتراف ضمني بأن الجزء المتبقي من فلسطين التاريخية يخص الشعب الفلسطيني الذي يملك حقاً حصرياً في أن يقيم عليه دولته المستقلة.
وصحيح أيضاً أن الكيان الصهيوني لم يكفّ منذ ذلك الحين عن محاولاته الرامية إلى التوسع والسيطرة على أراضي جيرانه بالقوة، عبر سلسلة متتالية من الحروب، وتمكن بالفعل من تجاوز حدوده الجغرافية المرسومة في قرار التقسيم، غير أن القانون الدولي لا يعترف بشرعية هذا التوسع، ويتعامل بالتالي مع الأراضي التي سيطر عليها بالقوة باعتبارها أراضي محتلة ينبغي الانسحاب منها، وليست أرضاً متنازعاً عليها كما يدّعي دائماً.
حين تخلت منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، عن مبدأ الكفاح المسلح اعتباراً من عام 1988، وقررت أن تسلك طريق البحث عن تسوية للصراع بالوسائل السلمية، ثم جسدت هذا التخلي عملياً حين قامت بالتوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993، لم تتمسك المنظمة بقرار التقسيم كمرجعية قانونية للتسوية المرجوّة، رغم ما يكفله من حق للمطالبة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على ما يقرب من 44% من مساحة فلسطين التاريخية، وبدلاً من ذلك قبلت بقرار مجلس الأمن الرقم 242 كأساس للتسوية، رغم أنه لا يتيح لها سوى المطالبة بالأراضي التي احتلت عام 67، والتي لا تمثل سوى 22% من مساحة فلسطين التاريخية، كحد أقصى لمساحة الدولة الفلسطينية المنشودة، ما يعني موافقتها المسبقة على الاكتفاء بخمس مساحة فلسطين التاريخية، وهو تنازل ضخم كان ينبغي أن يغري الكيان الصهيوني بالمسارعة بقبوله والتحمس لتحويله إلى واقع على الأرض، وهو ما لم يحدث. فبعد أقل من عامين من دخول “اتفاقية أوسلو” حيز التنفيذ، جرى اغتيال إسحاق رابين وبدأ نجم اليمين المتطرف في الصعود تدريجياً، إلى أن تمكن من السيطرة على كل مفاتيح السلطة في الكيان، ومن ثم راح يسعى بكل ما أوتي من قوة لإجهاض المحاولات الرامية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة كمرحلة أولى تمهّد الطريق نحو إقامة دولة “إسرائيل الكبرى” وفقاً لرؤيته التوراتية.
ثلاثة عقود كاملة تفصل بين عام 1993، الذي شهد التوقيع على اتفاقية أوسلو، وعام 2023، الذي وقع فيه “طوفان الأقصى”، وهي فترة طويلة بما يكفي لاختبار جدوى وفاعلية السياسات المستخدمة في إدارة الصراع من جانب طرفيه الرئيسيين، الفلسطيني والصهيوني، وكانا على طرفي نقيض.
فبينما سعت السلطة الفلسطينية، المدعومة من معظم الأنظمة العربية الرسمية، للتوصل إلى تسوية نهائية للقضية الفلسطينية، تتمحور حول قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على الأراضي التي احتُلت عام 1967، أصرّ الكيان الصهيوني، المدعوم من الإدارات الأميركية المتعاقبة كافة، على وضع العراقيل أمام الدولة الفلسطينية المرجوة وسعى لاستبدالها بكانتونات معزولة جغرافياً، يُتاح لسكانها الحق في التمتع بحكم ذاتي، محتفظاً لنفسه بكل الصلاحيات التي تمكّنه من فرض سيادته المنفردة على كامل الأرض والموارد، والإمساك بكل الخيوط التي تتيح له السيطرة على الملفات المتعلقة بالأمن كافة، وتحقيق الاستقرار. وحين تسببت هذه السياسات المتناقضة في انفجار “طوفان الأقصى” فجر يوم 7/10/2023، حرص الكيان على تحويل المحنة التي واجهته إلى فرصة سعى لاستغلالها لفرض رؤيته للتسوية على الآخرين، وللتمهيد في الوقت نفسه لإقامة دولة “إسرائيل الكبرى”، وهو ما يفسر قراره بشن حرب إبادة جماعية وتهجير وتجويع على الجبهة الفلسطينية، بشكل عام، وعلى قطاع غزة، بشكل خاص، وذلك بالتوازي مع شن حروب تخويف وردع وتفكيك وتدمير على بقية الجبهات المنخرطة في “محور المقاومة”، شملت توجيه ضربات موجعة لعواصم العديد من الدول العربية والإسلامية، بدءا ببيروت، وانتهاء بقطر، مروراً بدمشق وطهران وصنعاء.
تجدر الإشارة إلى أن ما جرى في المنطقة، منذ طوفان الأقصى وحتى الآن، كشف عن حقيقتين على جانب كبير من الأهمية، الأولى: وحشية الكيان الصهيوني، والتي تجلت بوضوح تام عبر ما ارتكبه من جرائم فاقت بشاعتها ما ارتكبته أعتى النظم وحشية في تاريخ البشرية، بما فيها النظام النازي نفسه، والثانية: صمود أسطوري للشعب الفلسطيني، بجناحيه المسلح والمدني، تجلى بوضوح تام عبر ما أظهرته فصائل المقاومة من بسالة فاقت كل التوقعات، رغم بدائية ما تملكه من وسائل قتالية، وكذلك عبر ما أظهرته الجماهير من تشبث مذهل بالأرض وبالوطن، رغم فداحة ما تعرضت له من مختلف ألوان القتل والبطش والمطاردة والتجويع.
وقد أدى تفاعل هاتين الحقيقتين معاً إلى انفجار المشاعر المتعاطفة مع الشعب الفلسطيني والمؤيدة لقضيته العادلة في العالم كله، وذلك بالتوازي مع انفجار الاحتجاجات الرافضة لممارسات كيان صهيوني سقط القناع تماماً عن مشروعه التوسعي والعنصري. ولا شك في أن التظاهرات العارمة التي اندلعت في معظم العواصم الغربية شكلت عنصراً ضاغطاً على أنظمتها الحاكمة، ما يفسر موجة الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية ويؤكد دخول القضية الفلسطينية في مفترق طرق جديد.
ليس من المتوقع أن تمارس الموجة الحالية من الاعتراف بالدولة الفلسطينية المرجوة أي تغيير يذكر على مستقبل القضية الفلسطينية، إلا إذا لحقت بالاعتراف القانوني بهدة الدولة إجراءات عقابية تفرض على كيان أحال قطاع غزة إلى كومة من رماد، وحوله إلى أرض غير قابلة للحياة، وما يزال يواصل عملياته العسكرية الرامية إلى إجبار سكانه على الرحيل والهجرة.
ولأنه مطمئن تماماً إلى أن سياساته، مهما بلغ بها الشطط، ستلقى كل التأييد والدعم من جانب إدارة ترامب، يتوقع ألا يكترث الكيان الصهيوني كثيراً بمواقف الدول الأخرى، خصوصاً إذا اقتصرت هذه المواقف على رسائل لها طابع رمزي أو قانوني، ومن ثم فقد يلجأ إلى التصعيد، بالإعلان مثلاً عن ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، ما سيضع الدول الأوربية الكبرى التي اعترفت حديثاً بالدولة الفلسطينية، خاصة بريطانيا وفرنسا، أمام اختبار عسير.
أما إذا فضل عدم التصعيد، فيتوقع أن يستمر في مواصلة سياساته المعتادة القائمة على مصادرة الأراضي والتوسع في بناء المستوطنات واقتحام المقدسات. ولأنه لن يكون مقبولاً من دول كبرى اعترفت بالدولة الفلسطينية، مواصلة السياسات نفسها التي كانت تنتهجها من قبل، فسيكون لزاماً عليها أن تسلك نهجا مختلفاً وأن تمتنع، على الأقل، عن استيراد المواد المنتجة أو المصنعة في المستوطنات، وأن تتخذ مواقف متشددة لمعاقبة المسؤولين عن عمليات الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي ترتكب كل يوم. لذا ينبغي عدم التقليل من أثر الزخم الذي تشهده الساحة الدولية هذه الأيام، خصوصاً وأنه أدى بالفعل إلى عزل الولايات المتحدة و”إسرائيل” اللتين أصبحتا تقفان وحدهما في مواجهة بقية المجتمع الدولي.
في سياق كهذا، يتوقع أن تشهد القضية الفلسطينية تطورات بالغة الأهمية خلال الأسابيع والشهور القليلة المقبلة، فإما أن تنجح الولايات المتحدة و”إسرائيل” في فرض إرادتهما المنفردة على المجتمع الدولي ككل، ما سيفضي حتما إلى تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما يصعب تصور حدوثه، أو أن يتمكن المجتمع الدولي من ممارسة ما يكفي من ضغوط لإجبار هاتين الدولتين المارقتين والمتجبرتين على تغيير موقفيهما، وهو السيناريو الأرجح، خصوصاً إذا تمكن الشعب الفلسطيني وفصائله المسلحة من مواصلة الصمود خلال تلك الفترة الحرجة. دعونا نتمسك بأهداب الأمل.