د. محمد عماد صابر يكتب؛ الاعتراف الغربي بالدولة الفلسطينية بين المكاسب والمخاطر (4)

لم يكن اعتراف دول أوروبية كبرى مثل إنجلترا وفرنسا بالدولة الفلسطينية قرارًا عابرًا أو مجرد خطوة رمزية، بل جاء نتيجة تراكم طويل من الضغوط الداخلية والخارجية، ومن حسابات دقيقة تتعلق بمستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي ومكانة هذه الدول على الساحة الدولية.
هذا الاعتراف يعبّر عن تحوّل في الرؤية الأوروبية، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام جدل سياسي واستراتيجي واسع حول جدواه وحدوده وتداعياته.
أولًا: دوافع الاعتراف.
1- الضغوط الإنسانية والأخلاقية.
المجازر المستمرة في غزة، وتدهور الوضع الإنساني في الضفة، خلقت صورة قاتمة للرأي العام الغربي، دفعت الحكومات إلى البحث عن خطوات ملموسة لتحسين صورتها وتأكيد التزامها بالقيم التي ترفعها.
2- فشل مسار المفاوضات التقليدي.
أكثر من ثلاثة عقود من المفاوضات لم تنتج دولة فلسطينية، بل زادت الاستيطان والانتهاكات. لذلك رأت بعض العواصم أن الاعتراف قد يكون وسيلة لإعادة إحياء خيار الدولتين ومنع انهياره.
3- الضغوط الداخلية.
في فرنسا وبريطانيا تحديدًا، تتزايد الأصوات الشعبية والحزبية التي تطالب بموقف حاسم تجاه إسرائيل. الاعتراف استجابة لضغوط انتخابية وإعلامية يصعب تجاهلها.
4- تعزيز الشرعية الدولية.
الخطوة تأتي انسجامًا مع قرارات الأمم المتحدة وحق تقرير المصير، في محاولة لإظهار أن أوروبا ما تزال وفية للقانون الدولي.
5- إعادة التوازن الدبلوماسي.
تعاني أوروبا من تهميش دورها أمام الهيمنة الأمريكية في ملف الصراع. والاعتراف محاولة لإثبات استقلالية القرار الأوروبي، ولفرض حضور أكثر تأثيرًا في مسار التسوية.
ثانيًا: المكاسب المحتملة.
تحسين الصورة الأخلاقية: خطوة تعيد للأوروبيين بعض المصداقية أمام شعوبهم والعالم الإسلامي.
تهدئة الداخل: تخفيف الاحتقان الشعبي والإعلامي في الشارع الأوروبي.
تعزيز النفوذ الدولي: موقع أكثر فاعلية على طاولة المفاوضات المقبلة.
تقوية العلاقات مع العالم العربي والإسلامي: فتح أبواب تعاون اقتصادي وسياسي أوسع.
رسالة ردع لإسرائيل: تنبيه واضح أن الاحتلال والاستيطان بلا نهاية لن يحظيا بغطاء سياسي أوروبي مطلق.
ثالثًا: المخاطر والتحديات.
الغضب الإسرائيلي والأمريكي: تهديد مباشر بالعقوبات أو القطيعة السياسية.
تراجع النفوذ على إسرائيل: خطر فقدان دور الوسيط الذي طالما تمسّكت به لندن وباريس.
اتهامات بالازدواجية: إذا لم يُترجم الاعتراف إلى ضغوط عملية، سيُعتبر خطوة شكلية.
مخاوف أمنية: احتمال أن يُفسّر الاعتراف كدعم غير مباشر للمقاومة المسلحة.
انقسام أوروبي داخلي: مواقف متباينة بين دول الاتحاد قد تضعف الموقف الجماعي.
رابعًا: القراءة الاستراتيجية.
الاعتراف ليس نهاية المعركة الدبلوماسية، بل بداية مرحلة جديدة. فالدول الأوروبية تدرك أن حل الدولتين يوشك على الموت، وأن استمرار الاحتلال يهدد الاستقرار الإقليمي ويغذّي التطرف. لذلك فهي تحاول عبر الاعتراف أن ترسل رسائل متعددة:
إلى إسرائيل: لا يمكن الاستمرار في سياسة فرض الأمر الواقع بلا ثمن.
إلى الولايات المتحدة: إذا واصلت الانحياز الأعمى لتل أبيب، فستجد أوروبا لنفسها مسارًا مختلفًا.
إلى الشعوب العربية والإسلامية: نحن ما زلنا طرفًا يمكن أن يُعوّل عليه في مسار العدالة.
خاتمة:
الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية خطوة جريئة لكنها محفوفة بالتحديات. فهي من جهة تمنح الفلسطينيين سندًا سياسيًا ومعنويًا، وتعيد شيئًا من التوازن في المشهد الدولي. لكنها من جهة أخرى قد تبقى شكلية ما لم تتبعها إجراءات عملية توقف الاستيطان وتُلزم إسرائيل بمسار سياسي جديد.
إنها معركة بين مكاسب سياسية ودبلوماسية مؤقتة، وبين مخاطر استراتيجية بعيدة المدى، تضع الغرب أمام سؤال مصيري: هل يريدون فعلًا حلًا عادلًا للصراع، أم مجرد ترميم لصورتهم أمام شعوبهم والعالم؟