مصرمقالات وآراء

مي عزام تكتب : أوهام نهاية التاريخ: إعادة كتابة الماضي وترسيم المستقبل

1 ) نبوءة فوكوياما الخادعة

عندما نشر المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما مقالته الشهيرة “نهاية التاريخ” لأول مرة عام 1989، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، جاءت بمثابة صك انتصار أبدي للنظام الديمقراطي الليبرالي الغربي واقتصاد السوق. ووفقاً لاعتقاده، فإن البشرية قد وصلت إلى أفضل وأرقى النظم القادرة على تلبية حاجات الإنسان: الحرية، والكرامة، والرخاء المادي، وأنه لا بديل عن هذا النظام.

فرض فوكوياما علينا النموذج الغربي كخاتمة للتطور الإنساني، لكن بعد عقود من كتابة المقال، اتضح أن السيناريو الذي قدمه لنا مليء بالثقوب، أكدها صعود الصين كنموذج سياسي واقتصادي منافس، وبعث روسيا من رماد الاتحاد السوفيتي لتتبوأ مكانتها في الصراع الجيوسياسي، وانتشار الحركات الشعبوية في الغرب نفسه، تشكل جميعها تحديات جوهرية للنظام الليبرالي الذي بشّر به.

الاحتفال الضخم الذي أقامته الصين بمناسبة مرور 80 سنة على انتصارها في الحرب العالمية الثانية وإنهاء احتلال اليابان لأراضيها، كان بمثابة تمهيد لنظام عالمي جديد تتضح صورته يوماً بعد يوم.

يتواكب عرض القوة الصيني مع فقدان أمريكا لبريقها؛ فهي لم تعد حلماً للباحثين عن أمل في عالم جديد، بل حولها ترامب إلى ما يشبه سجناً ضخماً يتم فيه اعتقال المهاجرين ومطاردتهم، في سياسة عنصرية يصفها بأنها “تنظيف أمريكا من الحثالة”. كلمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الثلاثاء الماضي تدل على أنه يعيش في فقاعة ضخمة من صناعته ولا يدرك ما يحدث حوله في العالم، يسخر ويهين الجميع بما فيهم الأمم المتحدة ولا يمدح سوى نفسه ويكيل الإهانات لسلفه بايدن وإدارته في سابقة هي الأولى من نوعها، ويأمر دول العالم أن تحذو حذوه فهو يعلم ما لا يعلمون. أمريكا البيضاء العنصرية تطل برأسها من جديد، لكن العالم هذه المرة قد تغير كثيراً.

الشعوب أصبحت أكثر جرأة على تحدي الظلم الواقع عليها، وأصبح لديها إعلام شعبي يعرض وجهة نظرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعيداً عن الرؤية الرسمية والإعلام الموجه. وهو ما دفع عدداً كبيراً من حكومات الدول الأوروبية إلى الاعتراف بدولة فلسطين والنقد العلني لعنف إسرائيل مع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية ومطالبتها بوقف فوري للحرب على غزة.

(2) إسرائيل: من ادعاء المظلومية إلى جريمة الإبادة الجماعية

منذ إعلان دولة إسرائيل عام 1948، اعتمدت الدولة العبرية على سردية الضحية: شعب ناجٍ من المحرقة، محاط بأعداء يريدون القضاء عليه.

هذه الأكذوبة وجدت تعاطفاً واسعاً في الغرب نتيجة إعلام موجه ولوبي صهيوني قوي، يحشد كل طاقاته وإمكانياته لطمس الحقيقة وقلب الوقائع. قدّمت إسرائيل نفسها كواحة للديمقراطية وسط محيط من الاستبداد، الغرب الاستعماري أراد أن يحل مشكلته فصنع صراعاً وجودياً معقداً يصعب حله ويتفاقم مع الزمن. واستغلت إسرائيل هذا الصراع للحصول على دعم عسكري وسياسي غير محدود من الغرب، وخاصة أمريكا، حيث يعد اللوبي الصهيوني أحد أقوى جماعات الضغط هناك.

مع بدء “طوفان الأقصى”، واستمرار حرب الإبادة على غزة، وانتشار صور الدمار والقتل الممنهج، وكذلك سياسة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة في تجويع أهل غزة ومنع المساعدات الإنسانية عنهم وتركهم وسط الركام دون طعام أو خدمات أو رعاية طبية، بدأت الشعوب الغربية ترى الحقيقة لأول مرة.

اشترك في الأخبار العاجلة تلقّ تنبيهات الأخبار العاجلة من الجزيرة مباشر فورا. ابق مطلعا على أهم العناوين من أنحاء العالم اشترك الآن عند قيامكم بالتسجيل، فهذا يعني موافقتكم على سياسة الخصوصية للشبكة محمي بخدمة reCAPTCHA جعلت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي من المستحيل احتكار السردية. فقد انتشرت حول العالم صور أطفال غزة الجوعى الذين تحولت أجسادهم النحيلة إلى جلد على عظم، مع صور الدمار والجثث الملقاة في العراء والتي تنهشها الكلاب الضالة.

وبدأ الرأي العام العالمي يستيقظ من غفوته ويرى إسرائيل على حقيقتها: قوة محتلة عنصرية تمارس مخطط الإبادة الجماعية والتهجير القسري للفلسطينيين، قوة احتلال عسكرية غاشمة، مقابل شعب أعزل محاصر، تخرق القانون الدولي دون رادع كما حدث في هجومها الصاروخي على الدوحة. كما ظهرت ازدواجية المعايير الغربية التي استمرت في دعم إسرائيل رغم المجازر، مما كشف تناقضها الأخلاقي وأضعف منطق المظلومية. وتحول الفلسطيني من صورة “الإرهابي” إلى رمز للمقاومة والصمود في وعي الملايين حول العالم، ونشاهد هذا التحول في المظاهرات الضخمة في العواصم والمدن الغربية، حيث أصبح “أسطول الصمود” أحد نتائج هذا التحول الكبير.

الأمين العام للأمم المتحدة، ومنظمات حقوقية، وجامعات، وحتى برلمانات غربية، جميعهم يتحدثون الآن علناً عن جرائم حرب يمارسها جيش الاحتلال، بعيدة كل البعد عن “الحق في الدفاع عن النفس”، وهي الحجة التي يروجها نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة للتغطية على جريمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة ومحاولة تهجيرهم قسرياً.

(3) إفريقيا: أكبر مما تبدو في الخرائط الاستعمارية

انتقد الاتحاد الإفريقي خرائط “مركاتور” التي تظهر إفريقيا أصغر بكثير من حجمها الحقيقي؛ فهي تبدو في الخريطة التي درسناها تماثل جزيرة غرينلاند تقريباً، في حين أن مساحتها الحقيقية تبلغ ضعف مساحة الجزيرة 14 مرة! جاءت حملة الاتحاد الإفريقي للتخلي عن خريطة مركاتور واستبدالها بنسخة أكثر دقة تعكس حجم إفريقيا الحقيقي، في ظل تصاعد المطالب بالتعويض عن الاستعمار والعبودية وإعادة الاعتبار للتاريخ الإفريقي.

صُممت الخريطة القديمة على يد رسام الخرائط الفلمنكي جيراردوس مركاتور عام 1569 لأغراض الملاحة، لكنها سببت انحيازاً جغرافياً رسخ في أذهان أجيال متتابعة تفوق مناطق الشمال على الجنوب من حيث المساحة، وكان لذلك انعكاساته على الوعي العام العالمي عبر المناهج الدراسية والإعلام الذي روجه.

هناك مؤسسات أممية تدعو إلى تبني خريطة “غال- بيترز” أو “الأرض المتساوية” بدلاً من خريطة “مركاتور” التي جسدت “أيديولوجية القوة والهيمنة”. لم يعد نقد خريطة مركاتور مجرد مسألة تقنية تتعلق بالدقة الجغرافية والمساحية، بل أصبح فعلاً إيجابياً لاستعادة المكانة والقيمة وتفكيك السرديات الغربية التي قزمت من مكانة إفريقيا ودورها وإمكانياتها، حيث تقدم إفريقيا اليوم نفسها كقوة صاعدة بمواردها الطبيعية، وديموغرافيتها الشبابية، وحضورها السياسي المتنامي على الساحة الدولية.

رغم كل ما نشاهده من صراعات وخاصة في منطقتنا العربية فعلينا أن ننتبه إلى النقاط المضيئة والإيجابية حولنا، العالم يشهد بداية تاريخ جديد، يقوم على تعدد الأقطاب وانهيار بعض السرديات المهيمنة (مثل الحلم الأمريكي والمظلومية الإسرائيلية)، وصعود أصوات جديدة كإفريقيا وقوى جديدة مثل: الصين. أطروحة “نهاية التاريخ” لم تكن سوى وهم لحظة انتصار عابرة، بينما الحقيقة أن التاريخ يعيد فتح أبوابه باستمرار، لتكتبه الأمم والشعوب من جديد بأفعالهم وإرادتهم. والفلسطينيون الآن يعيدون كتابة التاريخ بمقاومتهم الباسلة وصمودهم الأسطوري واستيقاظ العالم من غيبوبة الأكاذيب الغربية الاستعمارية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى