
لا تبدأ الحكاية من جدران السجن، بل من لحظةٍ قاسيةٍ بعد انتخابات الرئاسة ٢٠٠٥ حين اكتشفت أن الطريق إلى الحرية قد فُرِش بالأغلال.
لم يكن دخولي الزنزانة سوى بداية فصل جديد من دفتر قديم، فصلٍ كُتب بمداد الألم، لكنه وُشِّحَ دائمًا ببشارةٍ لم تفارق شفتي: “وبشِّر الصابرين”.
السجن لم يكن مكانًا فحسب، بل كان زمنًا أثقل من الرصاص. أربع سنوات (٢٠٠٥–٢٠٠٩) مضت وكأنها ربع قرن كامل، امتحنت فيها روحي كل يوم، وأُجبرت على أن أتعلم فنّ الصبر كما يتعلم الغريق فنّ التنفس تحت الماء.
في تلك السنوات كتبت أكثر مما كتبت في أربعين عامًا سبقتها. بلاغاتي ودعاواي تجاوزت ٢٠٠٥ ورقة رسمية، لكن كل ورقة لم تكن مجرد نصٍ قانوني، بل كانت مرثيةً وطنية، وشهادةً للتاريخ أن الظلم لم يكن وهمًا، بل حقيقةً موثّقة بالحبر والدمع.
كنت أعلم أن لا قاضٍ سينصفني، ولا نيابة ستُصغي، ولا صحيفة ستتجرأ على النشر، ومع ذلك كتبت.
كتبت كما يكتب الغريق رسالة في زجاجة، يلقيها في بحرٍ لا يعرف شواطئه، لعلّ الله يوصّلها إلى من يفهم معناها.
في مقدمة كل ورقة كانت تسبقني الآية نفسها: “وبشِّر الصابرين”.
لم تكن زينة افتتاحية، بل كانت عزاءً ومفتاحًا، وعدًا ربانيًا يضيء ليل السجن الطويل.
السجن لم يكن زنزانة، بل كان دهورًا متكدّسة في غرفة ضيّقة. الليل فيه أطول من العُمر، والنهار أعجز من أن يوقظ الأمل.
ومع ذلك، كان قلمي يواصل الطريق كأنه يمشي وحده في ممرّ مظلم يبحث عن الضوء.
استحضرت دومًا قصة الخضر وموسى: سفينة تُخرق لتنجو، وغلام يُقبض ليُعصم أبواه من مصير.
أيقنت أن الله لا يشرح دائمًا، وأن أعظم الامتحانات أن تصبر على ما لا تفهم حكمته.
في الداخل، حوصرت كتاباتي. وأُغلقت في وجهي، كل السبل، لكن صوتي خرج من جدا آخر:-
العفو الدولية أصدرت تقريرها عام ٢٠٠٦ لتقول: “إن اعتقال أيمن نور يمثل انتهاكًا صارخًا لحرية التعبير، ويكشف عن استخدام القضاء كأداة سياسية”.
وصلني هذا النص كأنه وردة ألقيت عبر أسلاكٍ شائكة.
هيومن رايتس ووتش كتبت في تقريرها السنوي: “ظروف احتجاز أيمن نور تُثير قلقًا بالغًا، والإفراج عنه ضرورة عاجلة”.
كانت تلك العبارة كفًّا حانيةً تُربت على كتفي، لتقول إن صرختي لم تُدفن هنا، بل وصلت هناك
البرلمان الأوروبي في ١٧ يناير ٢٠٠٨ تبنّى قراره الشهير، وسمّاني فيه “سجين رأي”، وطالب بالإفراج الفوري عني.
لم يفتح القرار باب الزنزانة، لكنه فتح ثغرةً في جدار العزلة، ليقول للعالم إن القضية لم تعد همسًا داخليًا، بل صارت صرخةً دولية.
الصحافة العالمية لم تلتزم الصمت.
نيويورك تايمز كتبت: “اعتقال أبرز منافس لمبارك يُظهر هشاشة الإصلاح المزعوم”.
لوموند الفرنسية وصفت محنتي بأنها “اختبار لمصداقية الديمقراطية في بلد يختنق بالاستبداد”.
واشنطن بوست تساءلت: “أي إصلاح يبدأ بسجن أبرز معارضيه؟”.
حين نقل لي المحامون نصوص هذه المقالات، شعرت أن الجدران لم تعد بنفس الصلابة.
لم تسقط، لكنها ارتجفت قليلًا، كأنها تعترف أني لست وحدي.
لم تكن المؤسسات وحدها، بل أصوات النواب أيضًا.
في البرلمان الأوروبي قال نائب من الخضر: “لا يمكن أن نعقد صفقات مع نظام يسجن خصومه السياسيين”.
وفي الكونغرس الأميركي صرّح أحد أعضاء لجنة العلاقات الخارجية: “اعتقال أيمن نور لطخة سوداء في سجل حليفنا المصري”.
هذه الكلمات كانت رسائل حرية مكتوبة بلغة السياسة.
هذه الأصوات لم تُحررني، لكنها حررتني من شعور العزلة.
جعلتني أؤمن أنني حاضر في ذاكرة العالم، حتى لو غبت خلف الجدران.
السجّان كان يظن أنه يحرس جسدًا، لكنه لم يفهم أنه يحرس قصةً ستُروى.
وأنا كنت أحرس نفسي من الانكسار بحبرٍ يسيل كل ليلة على الورق.
البلاغات التي لم يُستجب لها، والمقالات التي لم تُنشر، لم تضِع.
صارت لاحقًا وثائق تعتمدها المنظمات الدولية، وشهادات تُقرأ في البرلمانات الغربية.
ما كُتب في الظل صار نورًا في قاعات مشرعة على العالم.
الصبر لم يكن استسلامًا، بل كان مقاومة بلا سلاح.
مقاومة تقاوم بالسطر والورقة، لا بالرصاص.
الألم الذي أرادوا أن يخمدوني به، علّمني أن أكتب بصوتٍ أعلى، وأن أستحيل مرآةً يرى الناس في وجهي وجعهم.
السجن ضيّق الأفق، لكنه وسّع الرؤية. جعلني أرى من خلال الجدران أكثر مما كنت أرى من الشوارع الواسعة.
تعلمت أن الغاية من الصبر ليست الإفلات من المحنة، بل أن تُصبح أنت أكبر من المحنة.
تعلمت أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وأول معاركها يبدأ بورقةٍ تُكتب في زنزانة، قد تُصادر اليوم، لكنها ستُقرأ غدًا.
تعلمت أن الصحافة الأجنبية، والتقارير الحقوقية، وشهادات البرلمانيين، لم تكن أوراقًا خارجية، بل كانت صدىً لما أكتبه، امتدادًا لصوتي في العالم.
الظلم قد يُكمّم الأفواه، لكنه لا يستطيع أن يُخمد الصدى.
واليوم، وأنا أكتب هذه الورقة، أستعيد تلك الأصوات: صوت القرآن في صدري، صوت المنظمات في بياناتها، صوت الصحافة في افتتاحياتها، صوت النواب في قاعاتهم. كلها تنادي باسمي، لكنها تعني وطنًا كاملًا.
في النهاية، لا أجد عزاءً أصدق من البداية. تلك الآية التي كانت مفتاحي في كل ورقة، وخاتمتي اليوم: “وبشِّر الصابرين”.
ليست كلمة عزاء فحسب، بل وعدٌ أبدي بأن الصبر لا يضيع، وأن الحق مهما حُجب عن محاكم الأرض، يظل محفوظًا في سجلّ السماء.