
يعيش الشعب الفلسطيني مأساةً مروّعة، ولدت من رحم مؤامرات دولية كبرى لاقتلاعه من أرضه، انطلقت ضربة البداية فيها من “وعد” صدر عام 1917، أي منذ أكثر من مائة وثمانية أعوام. ورغم ما أظهره هذا الشعب المناضل والصبور من صمود أسطوري كشف مدى تشبّثه بوطنه وعمق تمسّكه بهويته، ما زال يواجه مخططات عديدة تصرّ على تصفية قضيته وتشريد من بقي من أفراده. فنتنياهو، رئيس الحكومة المسيطر على مقاليد الحياة السياسية في إسرائيل منذ ما يقرب من عقدَين من الزمان، يعتقد أن اللحظة الراهنة هي الأنسب لتصفية القضية الفلسطينية
أولاً، ثمّ للتحرّك بعد ذلك لإقامة دولة “إسرائيل الكبرى”، القادرة على فرض هيمنتها على المنطقة برمّتها. عاملان رئيسان يساعدان في ترسيخ هذا الاعتقاد في ذهن نتنياهو،
الأول: قناعته التامّة بأن الدول العربية أو الإسلامية لن تخاطر بالدخول في حرب مفتوحة مع إسرائيل من أجل إنقاذ الشعب الفلسطيني من محنته، لعمق إدراكها بأن إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، وستظلّ كذلك فترةً طويلةً قادمةً، ولأنها تملك أقوى الجيوش وأحدثها عدّةً وعتاداً، ولأنها مستعدّة دوماً لممارسة “خيار شمشون” إذا اقتضت الضرورة. والثاني إدراكه الواعي بأن وجود ترامب في البيت الأبيض (حتى بداية عام 2029) يتيح لإسرائيل فرصةً فريدةً ينبغي انتهازها على الفور، لأنها قد لا تتكرّر بعد ذلك أبداً.
خلال فترة ولايته الأولى، أثبت ترامب أنه الرئيس الأميركي الأكثر وفاء لإسرائيل، والأقدر على القيام بما لا يستطيع أيُّ رئيس أميركي آخر القيام به، بدليل نجاحه في نقل مقرّ السفارة الأميركية إلى مدينة القدس التي اعترف بها عاصمةً أبديةً موحّدةً لإسرائيل، وفي حمل العديد من الدول العربية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل (اتفاقيات أبراهام)، وفي ممارسة ضغوط مادّية ومعنوية غير مسبوقة على كلٍّ من السلطة الفلسطينية والوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وفي الانسحاب من اتفاق البرنامج النووي الإيراني، وعدم تردّده في فرض أقصى العقوبات على إيران،
استجابة لرغبة نتنياهو. وخلال ولايته الثانية، التي بدأت منذ تسعة أشهر فقط، اتّخذ ترامب العديد من المبادرات التي صبّت جميعها في صالح نتنياهو. فقد منحه كل ما يحتاج من وقت لمواصلة حرب الإبادة الجماعية والتجويع التي يشنّها على الشعب الفلسطيني، واشترك معه في توجيه ضربة عسكرية مباشرة لمنشآت إيران النووية، وتحدّث كثيراً عن صغر مساحة إسرائيل، ما أوحى باستعداده لمساعدتها في التوسّع وعدم الاعتراض على أيّ إجراء قد تقوم به لضمّ أراضٍ ومناطقَ جديدةٍ، وكان أول المبادرين بالحديث عن تحويل قطاع غزّة إلى “ريفييرا” شرق أوسطية، ما شجّع نتنياهو على المطالبة علناً بتهجير الفلسطينيين “وفقاً لرؤية ترامب”.
أصبحت إسرائيل تشكّل عبئاً كبيراً على الولايات المتحدة، وليس ميزة تعمل في صالحها
هذا الجانب من الصورة، الذي يشجّع نتنياهو على التشدّد في مواقفه إلى حدّ الاندفاع نحو “حافَة الهاوية”، يخفي وراءه جانباً آخرَ كان ينبغي أن يشجّع نتنياهو على توخّي الحذر، وهو ما لم يحدث، إمّا لأنه غير مدرك لما قد ينطوي عليه من مخاطر، وإمّا لأنه يتعمّد تجاهله تحت ضغط شعور خادع بغرور القوة وميل غريزي إلى ترجيح كفّة حساباته الشخصية على كفّة الحسابات المتعلّقة بالصالح العام، ألا وهو الجانب المتعلّق بالتحوّلات التي طرأت على صورة إسرائيل في المجتمع الدولي، على الصعيدَين الشعبي والرسمي. فعلى الصعيد الشعبي، أدّت بشاعة الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزّة، وفاقت ما ارتكبه النظام النازي في حقّ اليهود أنفسهم قبيل (وإبان) الحرب العالمية الثانية، إلى تحوّلات جذرية في رؤية الرأي العام العالمي لإسرائيل. فقد سقطت نهائياً صورةٌ كانت إسرائيل تحاول تسويقها كي تبدو “واحةً متفرّدةً للديمقراطية في صحراء الاستبداد العربي”. فقد بدأت قطاعات عريضة من الرأي العام في مختلف أنحاء العالم، خاصّة في الدول الغربية،
ترى إسرائيل على حقيقتها، أي دولةً توسّعيةً تعتدي على المدنيين، وتقتل الأطفال والنساء والصحافيين والأطبّاء ورجال الإسعاف، وتدمّر المدارس والمستشفيات والمخيّمات ومراكز اللجوء، وتحرق الخيام وتطارد المحتمين فيها بالمسيّرات، وترى في نظامها السياسي العديد من سمات ومظاهر التمييز والفصل العنصري، لا تختلف كثيراً عن تلك التي عرفها نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من حجم المظاهرات الجماهيرية التي اجتاحت العديد من العواصم الغربية، ومن اعتصامات طلابية عديدة شهدتها أكبر الجامعات في معظم أنحاء العالم، وممّا أظهرته استطلاعات وأدوات قياس الرأي العام من تأييد متنامٍ للقضية الفلسطينية، ومن رفض واضحٍ للسياسات والممارسات الإسرائيلية.
وعلى الصعيد الرسمي، أدّى السلوك الإسرائيلي المتجاوز كل الأعراف والقيم الإنسانية، خاصّة في قطاع غزّة، إلى تحوّلات جذرية في مواقف معظم دول العالم، بما فيها الدول الغربية التي كانت منحازةً تقليدياً إلى إسرائيل، جسّدتها مواقف مؤيّدة للقضية الفلسطينية و/ أو مواقف معارضة للسياسات الإسرائيلية، بدليل تزايد أعداد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، ووصلت حتى الآن إلى 157 دولة، ما يعادل أكثر من 81% من إجمالي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة، وتزايد أعداد الدول التي تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل، بل المستعدّة للقيام بذلك.
ما يلفت النظر هنا ليس عدد الدول التي تغيّرت مواقفها خلال الأسابيع الماضية، ولكن نوع هذه الدول وثقلها في الساحة السياسية. فعندما تقوم دول مثل بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا وغيرها بالاعتراف رسمياً بالدولة الفلسطينية، أو تقوم دول مثل إسبانيا بفرض عقوبات فعلية على إسرائيل، أو تهدّد المفوضية الأوروبية بمنع استيراد المنتجات المُصنَّعة في المستوطنات، فمن شأن ذلك كلّه أن يسهم في تغيير شكل واتجاه التفاعلات الدولية في المرحلة المقبلة. ويكفي أن نتذكّر هنا أن أربع دول دائمة العضوية في مجلس الأمن من إجمالي خمس، وأن 14 دولةً عضواً في مجموعة العشرين، جميعها تعترف الآن رسمياً بالدولة الفلسطينية، ما سيؤدّي (إن عاجلاً أو آجلاً) إلى عزل إسرائيل والولايات المتحدة ومحاصرتهما في الساحة الدولية.
صحيح أن الولايات المتحدة ما تزال تملك سلاحاً بتّاراً يمكّنها من حماية إسرائيل من التعرّض لعقوبات دولية جماعية، كحقّ النقض في مجلس الأمن (فيتو)، وما تزال قادرةً باعتبارها الدولة الأقوى في العالم على مدّ إسرائيل بكل ما تحتاج إليه من أدوات الفتك والدمار، لكنّ ذلك قد لا يدوم طويلاً، خصوصاً أن النظام العالمي يشهد تغيّرات متسارعة، ومن ثمّ فلن يكون في مقدور الولايات المتحدة أن تبقى متربّعةً وحدها على عرش النظام الدولي فترةً طويلةً قادمةً، فضلاً عن أن إسرائيل أصبحت تشكّل عبئاً كبيراً عليها، وليس ميزة تعمل في صالحها.
بدأت قطاعات عريضة من الرأي العام العالمي ترى إسرائيل على حقيقتها، دولةً توسّعيةً معتدية
في سياق ما تقدّم، يمكن القول إن ترامب بدأ يستشعر أن الوقت المتاح أمامه لحسم القضايا العالقة لم يعد طويلاً. ولأن نتنياهو ما زال يصرّ على نصر مطلق عجز عن تحقيقه رغم مهل كثيرة أتيحت له، فقد بات ترامب في عجلة من أمره لتحقيق إنجاز ما، ما يفسّر قراره الاجتماع (الأربعاء الماضي) بقيادات عُليا من ثماني دول عربية وإسلامية، هي تركيا وباكستان وإندونيسيا ومصر والسعودية والأردن وقطر والإمارات.
وقد صرّح ويتكوف أن ترامب عرض في هذا الاجتماع “خطةً من 21 نقطة للسلام في الشرق الأوسط وغزّة”، ذكرت مصادر إعلامية أنها ترتكز على مبادئ عامّة، أهمها إطلاق صراح جميع الرهائن المتبقّين، ووقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب تدريجي لإسرائيل من كامل قطاع غزّة، وخطة لمرحلة ما بعد الحرب تشمل آليةً لحكم القطاع من دون مشاركة من حركة حماس، وتشكيل قوة أمنية تضمّ جنوداً فلسطينيين ومن دول عربية وإسلامية، وآلية لإعادة إعمار القطاع بتمويل من دول عربية وإسلامية أيضاً.
ولأن ترامب لا يستطيع كشف تفاصيل هذه الخطة قبل أن يناقشها مع نتنياهو في اجتماع سيعقد قريباً، يمكن القول إن الأسبوع المقبل سيكون حاسماً في تحديد وجهة الأحداث ومسارها في المنطقة، وربّما تتعرّض فيه العلاقات الأميركية لامتحان صعب ستحدّد نتيجته ما إذا كان في مقدور ترامب ترويض نتنياهو، وإخضاعه لإرادة القوة الأعظم في العالم وإجباره على التأقلم مع مصالحها، أم أن العكس هو الصحيح، ومن ثم سيكون في مقدور نتنياهو حشد وتعبئة اللوبي الصهيوني المسيطر على مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة لإقناع ترامب (كالمعتاد) بأن كل ما يُحقِّق مصلحةً لإسرائيل، أو حتى لنتنياهو في هذه الحالة، يُحقِّق مصلحةً للولايات المتحدة، ولترامب شخصياً.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يتسرّب من خطة ترامب الجديدة أيُّ شيء يتعلّق بمصير الضفة الغربية والمستوطنات اليهودية هناك. وأخشى ما أخشاه أن يكون ترامب قد بنى خطته وفقاً لمعادلة جديدة، مفرداتها كالتالي: وقف دائم لإطلاق النار في غزّة من دون “حماس”، ومن دون تهجير طوعي أو قسري للسكّان، مقابل موافقة الدول العربية والإسلامية، التي اجتمع بقادتها، على ضم إسرائيل الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، وهي تشكّل ما يقرب من 70% من إجمالي مساحة الضفة، وبذلك يكون ترامب قد قرّر أن يعيد ضخّ دماء “صفقة القرن” القديمة في قوارير جديدة، وهو ما لا يصحّ استبعاده من جانب شخص يمتلك خصائص نفسية وعقلية ترامبية. فهل ينجح هذا المُطوِّر العقاري الفريد في تمرير “صفقة قرن” جديدة تمهّد له طريقه للحصول على جائزة نوبل للسلام؟… أرجو ألّا يمكّنه القادة العرب والمسلمون من التسلّل عبر الجماجم الفلسطينية للفوز بهذا الشرف الذي لا يستحقّه أبداً، رغم ما لحق بهذه الجائزة من سوء سمعة.