
لا يقاس رقيّ الأمم بعدد القوانين التي تُسنّ، بل بقدرتها على جعل القانون مرآةً للعدل، وصوتًا للضمير.
حين يغيب الضمير.
يتحول القانون إلى سوط.
ويتحول البرلمان إلى مسرح صامت.
إعادة فتح ملف قانون الإجراءات الجنائية تبدو في ظاهرها خطوة إصلاحية، لكنها في حقيقتها محاولة جديدة لتجميل بيت مائل الأساس، يوشك أن يسقط مهما غطّته الألوان.
البرلمان الذي وُلد ليكون بيت الأمة صار مجرد ظلّ للسلطة التنفيذية. النواب الذين يحملون صفة “المشرّعين” أصبحوا شهودًا على نصوص تُفرض من فوق، لا من وجدان المجتمع.
في كل تصويت، يُختبر النائب بين ضميره وكرسيه. والنتيجة للأسف أن الكراسي انتصرت، بينما الضمائر هُزمت في امتحان التاريخ.
الحكومة بدورها ليست خارج الصورة. الوزير الذي يُفترض أن يكون صمام الأمان لحوار سياسي دستوري، صار موظفًا يُسوّق نصوصًا مُعلبة، لا رجلاً يحمل رؤية أو مسؤولية.
في الأنظمة الديمقراطية، الوزير لا يُحاسب فقط على قراراته، بل أيضًا على صمته. لأن الصمت أمام انحراف القانون تواطؤ، والتواطؤ خيانة للضمير.
الدستور المصري نفسه يؤكد أن “سيادة القانون أساس الحكم في الدولة” (المادة 94)، وأن “حرية الفكر والرأي مكفولة” (المادة 65). هذه ليست شعارات، بل التزامات واجبة التنفيذ.
مصر، بتوقيعها على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1982، التزمت أمام العالم بضمان المحاكمة العادلة وحماية المواطنين من الاعتقال التعسفي. ومع ذلك، تُنتهك هذه الالتزامات دون أن يهتز كرسي وزير.
تاريخ مصر قبل 1952 يثبت أن الاستقالة السياسية كانت فعل شرف. فؤاد باشا سراج الدين روى لي بنفسه كيف قدّم استقالته لأن النحاس باشا رفض أن يُقام له حرس شرف عند نزوله من القطار. لم يتردّد رغم أنه كان الابن السياسي للنحاس.
لم يتوقف الأمر عند سراج الدين. مكرم عبيد قدّم استقالته من وزارة المالية حين اصطدم بممارسات لا يقبلها ضميره. وأحمد ماهر باشا انسحب من الوزارة حين شعر أن ضغوط القصر تهدم مبادئ الاستقلال.
كانت الاستقالة آنذاك فعل مقاومة، وصوت احتجاج، ورسالة بأن الوزير ليس عبدًا للكرسي، بل خادمًا للمبدأ.
في العالم، الأمثلة أكثر وضوحًا. أنطوني إيدن استقال من رئاسة وزراء بريطانيا بعد أزمة السويس. في ألمانيا، رحل وزير دفاع صاعد بسبب خطأ أكاديمي.
أما في اليابان، فالاستقالة تتحول أحيانًا إلى انتحار رمزي. الوزير هناك قد يُنهي حياته إذا شعر أنه خان ثقة الأمة أو تعرّض للإهانة، ليؤكد أن الكرامة السياسية أثمن من المنصب ومن الحياة نفسها.
الفارق أن تلك المجتمعات عاشت ثقافة المسؤولية السياسية، بينما نحن اليوم نعيش ثقافة الكرسي.
الاستقالة في مصر صارت نادرة، وكأنها عيب أو ضعف، بينما هي في الحقيقة قمة القوة والشجاعة.
إن استقالة وزير في هذه اللحظة ستكون علامة مضيئة، وجرس إنذار بأن الكرامة السياسية لم تمت.
ستُعيد الثقة في أن القانون ليس ملكًا للسلطة، بل هو عهد بين الدولة والمجتمع.
وستُعلّم الأجيال القادمة أن الكرامة أغلى من الكراسي، وأن التاريخ لا يكتب أسماء المتمسكين بالمقاعد، بل أسماء الذين عرفوا متى يغادرونها مرفوعي الرأس.
ويبقى الأهم: أن العدالة ليست نصوصًا، بل وجدان، وأن الضمير ليس رفاهية، بل بوصلة تُحدد اتجاه الأمم. ومصر، بتاريخها العظيم، لا تستحق برلمانًا بلا مساءلة، ولا حكومة بلا مسؤولية، ولا وزراء يدفنون ضمائرهم تحت مقاعدهم.
فإذا صحونا يومًا وسمعنا أن وزيرًا اختار أن يستقيل ليصون كرامته وكرامة المنصب، فسيكون ذلك أول مؤشر على أن مصر استعادت بوصلتها، وأن الضمير الذي غاب طويلاً بدأ يعود.