
في ليالي الطفولة، لم يكن الليل ينام معي في ذات الغرفة، بل كان يترك لي رفيقًا صغيرًا يهمس من راديو خشبي قديم. كان الصوت يأتي من لندن، ليشقّ جدار الصمت في بيتنا، ويفتح نافذة على عالم لم يكن يشبه عالمنا. كانت BBC بالنسبة لطفل لم يتجاوز العاشرة بابًا سريًا إلى الحرية، درسًا مبكرًا أن الكلمة تستطيع أن تشعل وعيًا، وأن الصوت قد يعلو فوق صوت السلطة.
بين شاشتين باهتتين – الأولى والثانية – لم أرَ سوى وجه الحاكم وصداه. أما إذاعة لندن، فقد علّمتني أن الحقيقة لا لون لها، وأن للرأي المخالف مكانًا، وأن الإنسان لا يُختزل في نشرة تُملَى من فوق.
من هناك بدأت ملامح وعيي الليبرالي، وتفتحت عيوني على مدرسة إعلامية كان شعارها الحقيقة… والرأي والرأي الآخر. في زمن لم يعترف فيه أحد بوجود “آخر”، جاءت الـBBC لتقول لي: هناك آخر يجب أن تسمعه، حتى لو لم ترضَ عنه.
ظل صوت محمد الأزرق محفورًا في أذني بتميزه ودفئه، ومعه أصوات جيزيل خوري، زينب بدوي، مي شدياق، ندى عبد الصمد… أصوات صارت جزءًا من إيقاع يومي، تذكّرني أن للعالم ساعة غير ساعة القاهرة، وأن للعقول حقًا في أن تسمع وتُسمع.
في الزنزانة بعد انتخابات 2005، لم تكن “البي بي سي” مجرد إذاعة، بل كانت ساعتي الحائط. كنت أعرف الزمن من مواعيد نشراتها، وأحسّ بالحياة من وقع برامجها. كان بلا قيود يحطّم بعض قيود السجن، وكان حديث الساعة يضع يدي على قلب العالم، وكان العالم هذا المساء يذكّرني أن الليل ليس واحدًا في كل مكان.
من وراء القضبان، تابعت انتفاضة المحلة يوم 6 أبريل 2008، حين دوّى صوت العمال فوق القيود. لم يكن عندي سوى راديو صغير، لكنه كان يكفيني لأشعر أن مصر لم تمت، وأن هناك نافذة واحدة لم تُغلق بعد.
لم تكن الجزيرة حين انطلقت في 1996 إلا الامتداد الطبيعي لمدرسة الـBBC، الابنة الشرعية لتجربة بُنيت في لندن. خرجت لتصير الحدث الأبرز في ربع القرن الأخير، تحمل بذورًا غُرست هناك وتثمر هنا. أصوات جميل عازر ومحمد كريشان بدت كأنها تكملة لدرس بدأ قبلها بعقود.
حين أطلقت الـBBC قناتها العربية عام 2008، بدا المشهد كامل الدائرة: إذاعة ربتنا على الاستماع، وتلفزيون يوسّع مساحة الرؤية، وقناة عربية تعيد للأمة حقها في أن ترى وتسمع ذاتها.
قررت وقتها أن أترك الصحافة الورقية إلى الصحافة الجديدة. كنت قد رفعت دعوى أمام القضاء الإداري ضد رفض تأسيس أول إذاعة خاصة على موجات الـFM بعد أن مُنحت لزميلنا عماد أديب. تلك الدعوى بقيت عالقة في دهاليز المحاكم: لا تُرفض ولا تُقبل. لكن البوصلة لم تتغير، كانت دائمًا تشير إلى “لندن”.
حين تقدمت في 2012 بطلب لتأسيس قناة “الغد”، كانت أحلامي أكبر من أن تُختصر في أوراق رسمية. لم تُكتب للقناة حياة في بلدي، لكن الطريق بقي مفتوحًا حتى تحقق الحلم بقيام قناة الشرق، التي تكمل اليوم اثني عشر عامًا كأول قناة معارضة مصرية.
“البي بي سي” لم تكن مجرد إذاعة أجنبية؛ كانت مدرسة، كانت ذاكرة، كانت رفيقًا في طفولة محاصرة، وصوتًا حاضرًا في زنزانة باردة، ومنارةً في رحلة إعلامية طويلة.
والجزيرة لم تكن إلا استكمالًا لتلك المدرسة، وتجسيدًا لجرس قديم تعلمناه من لندن: أن الحقيقة لا تُختصر في نشرة رسمية، وأن الرأي الآخر ليس ترفًا، بل شرط حياة.
اليوم، ونحن نرى إعلامنا يعود إلى الخلف كسيارة بلا مرآة ولا بوصلة، نتذكر أن الصوت الواحد لا يصنع وطنًا، وأن الصدى لا يغني عن الصوت.
المدهش أن يطلب رأس الدولة هامشًا من التنوع، فإذا بالمؤسسات تبتلع من يرونه “آخرًا”، وتُعيد إنتاجه على هواها، كأنه مجرد نسخة باهتة في ماكينة رسمية.
لكن “الآخر” لا يُصنع في أقبية الأمن، ولا في مطابخ التعليمات. الآخر الحقيقي هو الذي يجد مكانًا بين أحزاب حرة، ونقابات مستقلة، ومجتمع مدني نابض، وقضاء عادل، وصحافة غير مرتهنة.
النوستالجيا إذن ليست حنينًا فارغًا، بل مقاومة للزمن الرديء. هي اعتراف بدَين شخصي لجيل كامل، يظل صدى أصواته يذكرنا أن الحرية ليست ذكرى، بل وعد لا يجوز التنازل عنه.
لذلك، حين أكتب هذه الورقة من مذكراتي، أشعر أنني أكتب سيرة وطن لا سيرة شخص، ومرآة شعب لا مرآة فرد.
من طفولة السبعينات، إلى زنزانة الألفية، إلى معارك الإعلام الجديد، يظل شعاري واحدًا: الحقيقة… والرأي… والرأي الآخر.
واليوم، وأنا أرى حال إعلام بلادي وقد صار مرآة مشروخة لصوت واحد، أستعيد قول أحمد لطفي السيد، رائد الحرية والعقلانية في مصر: “الحرية أثمن ما يملكه الإنسان، وإذا فقدها صار كل شيء آخر بلا قيمة.”
تلك هي وصية BBC والجزيرة معًا، وتلك هي بوصلة الوعي التي لن أتخلى عنها: أن الحرية ليست خيارًا، بل قدرٌ لا يجوز لأمة أن تفرّط فيه.
رسالتي إلى أديب والجلاد وحسين:
أقول لثلاثتهم يا زملاء المهنة وأصدقاء زمن مضى، إذا كان للإصلاح السياسي روشتة، فإنكم تعرفونها جيدًا. قد يكون من بين سطورها، واستحقاقاتها، عودة هذا الصوت الإعلامي أو ذاك.
لكن اختزال الإصلاح السياسي في هضم الدولة داخل ماكيناتها الإعلامية لصوتٍ واحد اختزال مخلّ ومخجل أن يصدر عن ثلاثتكم، وأنتم من أنتم. لكم وعليكم، كما لنا وعلينا.
أقول لكم إن الخلط بين الإعلامي والسياسي خطأ – ولو كان شائعًا. وأقول لكم أيضًا إن الأجهزة تتغير بتغير المراحل، لكنكم عايشتم كل المراحل. وكما تعرفون روشتة الإصلاح السياسي الحقيقي الواجب والمستحق، فإنكم تعرفون أيضًا أن الاعتدال له عنوان لا يمحوه شهادة، ولا ينفيه تلميح لا يملك شجاعة ذكر الاسم.
قد تختلف الطرق، وقد تتبدل المواقع، لكن الحقيقة لا تموت، والرأي الآخر لن يُختزل في صدى باهت. ويبقى الاحترام والتقدير واجبًا للجميع.
https://www.facebook.com/story.php?story_fbid=10230363858427877&id=1460018059&rdid=pNSjqz6ewNknRPum#