مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: السودان إلى أين يتجه قطار الدم والجوع؟

لم يعد السودان في حاجة إلى توصيف جديد لمأساته، فالخرائط صارت ملطخة بالدماء، والأرقام تحولت إلى شواهد قبور جماعية.

بين دارفور وشمال كردفان، والخرطوم وأمدرمان، يسكن الموت تفاصيل الحياة، ويصحو الناس على وقع القصف والرصاص، ثم يعودون ليناموا على صدى العويل والأنين.

مدينة الفاشر – عاصمة دارفور – صارت صورة مصغرة لمستقبل مقلق. حصار خانق، قصف بالطائرات المسيّرة، ومسجد يتحول إلى مقبرة جماعية في سبتمبر الماضي، وسوق يُسفك فيه دم الفقراء بدلًا من أن تُعرض فيه أقواتهم.

الفاشر اليوم عنوان على أن الحرب خرجت من إطارها العسكري إلى استباحة كل ما هو إنساني.

الأرقام التي تُنشر لا تعكس سوى جزء من الحقيقة المرعبة: ٣٠.٤ مليون إنسان في السودان بحاجة ماسة للمساعدة الإنسانية، أي أكثر من ثلثي السكان.

ومع ذلك، لا تستهدف خطة الأمم المتحدة سوى ٢٠.٩ مليون، بتمويل يتجاوز ٤ مليارات دولار، لم يتوفر منه سوى النصف تقريبًا.

العجز في التمويل ليس مجرد نقص مالي، بل هو حكم بالموت على مئات الآلاف. فحين يُحرم السودان من نصف احتياجاته التمويلية، فهذا يعني أن أطفالًا لن يجدوا الغذاء، وأمهات لن يحصلن على دواء، ومدنًا كاملة ستُترك للجوع والأوبئة.

خلال النصف الأول من هذا العام وحده، وثقت الأمم المتحدة مقتل ٣٣٨٤ مدنيًا، غالبيتهم العظمى في دارفور.

لكن ما لم يُوثق ربما يفوق هذه الأرقام بكثير، لأن القتل في السودان صار جماعيًا، بدوافع إثنية، وبطرق تنتمي إلى العصور المظلمة.

ما يجري ليس مجرد حرب، بل عملية تفريغ إثني واجتماعي ممنهج.

دارفور مرة أخرى تُقدَّم كقرابين لصراع مسلح تتداخل فيه القبيلة بالسياسة، ويتحول فيه الانتماء العِرقي إلى بطاقة عبور نحو الموت أو النزوح.

على حدود جنوب السودان، مأساة أخرى لا تقل قسوة. أكثر من ٩ آلاف إنسان عالقون عند معبر رنك منذ يونيو الماضي، بعدما علقت المنظمة الدولية للهجرة (IOM) دعمها للنقل بسبب نقص التمويل. آلاف الأرواح عالقة بين دولتين، بلا ماء ولا دواء، وكأنهم عالقون بين الحياة والموت.

ومع النزوح الداخلي والخارجي، ارتفع العدد الكلي للنازحين والمشردين إلى ١٢ مليونًا، وهو رقم كفيل وحده بخلخلة أي دولة مهما كانت قوية، فكيف بدولة منهكة ومحطمة البنية مثل السودان؟

أما انعدام الأمن الغذائي، فقد بلغ مرحلة كارثية، إذ يعيش ٢٤ مليون إنسان على الأقل في مستويات حرجة من الجوع. هذه ليست مجاعة قادمة، بل مجاعة واقعة بالفعل، تتسع يومًا بعد يوم.

السؤال الآن: كيف سيكون عام٢٠٢٦؟

السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرار الوضع على حاله: خطوط تماس لا تحسم، وحصار مستمر لـ الفاشر، وجيوب جديدة من الجوع الحاد (IPC 5) في دارفور وكردفان، مع فجوة تمويل تتجاوز ٥٠٪ بسبب إرهاق المانحين وتزاحم الأزمات العالمية.

أما السيناريو الأكثر قتامة، فهو سقوط الفاشر بيد الميليشيات أو تشديد الحصار عليها. عندها سنشهد مجازر جماعية ونزوحًا أكبر إلى تشاد وجنوب السودان، مع تفشي الأوبئة وارتفاع معدلات القتل بدوافع إثنية، لتتكرر مأساة الجنينة ٢٠٢٣ لكن على نطاق أوسع.

السيناريو الإيجابي، وهو محدود جدًا، يقوم على نجاح هدن إنسانية موضعية تسمح بمرور الإغاثة عبر ممرات الفاشر–الطينة (تشاد)، والأبيض–كردفان، وبورتسودان عبر البحر.

كما يتضمن إعادة تشغيل النقل من رنك، ما يخفف الضغط على عشرات الآلاف من العالقين.

لكن هذه السيناريوهات جميعًا، تبقى رهينة الإرادة السياسية الإقليمية والدولية.

فإذا استمر التواطؤ بالصمت أو الانشغال بأزمات أخرى، فإن السودان سيتحول إلى جرح مفتوح في خاصرة إفريقيا والعالم العربي.

المطلوب الآن أولًا: فتح ممرات إنسانية محايدة تحت إشراف آلية أممية إقليمية تمنع تسليح القوافل، وتضمن وصول الغذاء والدواء.

ثانيًا: إعادة تمويل النقل الإنساني من رنك، مع إيجاد بدائل برية ونهرية لتخفيف الكارثة.

ثالثًا: حماية المدنيين عبر ضغط دبلوماسي حقيقي، لا مجرد بيانات إدانة، مع فرض عقوبات موجهة على من يثبت تورطه في استهداف المدنيين أو ارتكاب جرائم بدوافع إثنية.

رابعًا: تمويل مرن متعدد السنوات، لا مجرد تبرعات ظرفية، لقطاعات الصحة والغذاء والمياه، مع بدء برامج للتعافي المبكر في الولايات الشرقية الأقل تضررًا (كسلا، القضارف، البحر الأحمر).

خامسًا: توسيع الاستجابة عبر الحدود مع تشاد وجنوب السودان، لتجاوز نقاط الخنق داخل السودان، وفتح أفق جديد لإنقاذ ملايين الأرواح.

الخطر الأكبر ليس في طول أمد الحرب فقط، بل في تحولها إلى مقبرة جماعية للشعب السوداني.

هنا يصبح الحديث عن “تداعيات إنسانية” مجرد لغة دبلوماسية باردة لا تليق بحجم المأساة.

إن مصر، بحكم التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك، لا يمكنها أن تقف موقف المتفرج.

فالسودان ليس مجرد جار، بل هو عمق استراتيجي، وركن من أركان الأمن القومي المصري.

إهمال السودان أو القبول بتفتيته تحت رعاية مشاريع إقليمية مشبوهة، هو مقامرة بمستقبل مصر نفسها.

منذ فجر التاريخ، كان #النيل يوحد مصر والسودان.

واليوم، حين ينزف السودان، فإن مصر تنزف معه.

وحين يُقسم السودان، فإن الجرح يصل إلى قلب القاهرة قبل الخرطوم.

لا مستقبل للسودان بلا تدخل جاد، ولا مستقبل لمصر بلا سودان موحد.

فالسكوت عن المأساة السودانية خيانة للذاكرة وللجغرافيا وللتاريخ.

لذلك، لا بد من صوت عربي وإفريقي حقيقي يعيد التذكير بأن السودان ليس ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، بل وطن لشعب يستحق الحياة.

السودان اليوم لا يسأل عن المساعدات فقط، بل يصرخ طالبًا العدالة والحماية.

وهو صراخ يجب أن يجد آذانًا صاغية، قبل أن تتحول الجغرافيا كلها إلى أطلال، والخرائط إلى مقابر.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى