
لم يكن غريبًا أن تصدر عن إدارة حزب الوفد برئاسة عبد السنديمامة مذكرة قانونية متهافتة، تحاول أن تُلبِس الاعتصام المشروع لصحفيي جريدة الوفد ثوب الجريمة، وأن تُشيطن احتجاجًا مهنيًا سلميًا تحت مظلة الدستور والقانون.
لكن الغريب والمؤلم معًا أن تأتي هذه المذكرة من رئيس لحزب يفترض أنه “بيت الأمة”، في واحدة من أسوأ لحظات تاريخ الوفد، حيث يُستهدف الحق المشروع ويُهان إرث قادة الحزب العظام الذين كانوا حراسًا للحريات، لا أعداءً لها.
لم يكن خالد البلشي، النقيب المنتخب بإرادة الصحفيين، سوى رمز لصوت النقابة الحر، وحارسًا أمينًا لرسالتها المهنية والنقابية.
لم يأتِ إلى النقابة على ظهر سلطة ولا على أكتاف مال، بل جاء بإجماع القاعدة التي رأت فيه صوتها وضميرها.
فهل يعقل أن يُهاجَم بهذا القدر من الافتراء من رجل يُفترض أنه رئيس أعرق حزب ليبرالي في مصر؟
الحق في الحد الأدنى من الأجور في الدوله وفي الاعتصام والإضراب والتظاهر السلمي ليس منحة من أحد، ولا فضل فيه لحاكم أو رئيس حزب، بل هو حق دستوري أصيل.
فقد نصّت المادة 15 من الدستور المصري على أن: “الإضراب السلمي حق ينظمه القانون”. ونصّت المادة 73 على أن: “للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية”.
وأكدت المادة 65 أن حرية الرأي مكفولة، وحرية التعبير عنه بكل وسائل التعبير مكفولة.
فكيف يستقيم أن يُجرّم اعتصام سلمي داخل مؤسسة صحفية، في وقت يفتح فيه الدستور الباب لهذه الحقوق باعتبارها من صلب الحياة الديمقراطية؟
المذكرة التي كتبها يمامة كانت أشبه بمسودة مدرسية جافة، تفتقر إلى الروح القانونية والدستورية، وتقوم على مجرد رصّ للنصوص كما يرصف تلميذ كسول مواد قانون العقوبات وقانون العمل وقانون الأحزاب في ورقة واحدة، دون فهم للفروق الدقيقة بين الاعتصام المشروع والتجمهر الإجرامي، وبين الاحتجاج النقابي السلمي والجريمة الجنائية.
وكأن الرجل لم يدرس القانون إلا مرورًا، ولم يتذوق روح النصوص ولا فلسفتها.
بل إن من يقرأ ما كتب يدرك أنه أقرب إلى مخرجات “ذكاء اصطناعي” بارد، منه إلى جهد قانوني يليق برئيس حزب يفترض أنه يتسنّد إلى تقاليد مدرسة الوفد الدستورية.
إن الفقه القضائي والدستوري استقر على أن الحقوق والحريات تُفسَّر على نحو موسّع لصالح المواطن، وتُقيَّد على نحو ضيق إذا تعلق الأمر بتقييدها من السلطة.
وفي هذا السياق أكدت محكمة النقض في أكثر من حكم أن الاعتصام المشروع الذي لا يتضمن عنفًا أو تخريبًا يظل تعبيرًا مشروعًا عن الحق الدستوري في التعبير والتنظيم.
وأن القول بغير ذلك يُعد إهدارًا للدستور وتحويلاً للحق إلى جريمة، وهو ما لا يستقيم مع مبدأ سيادة القانون.
لم يفرّق عبد السند يمامة – عن قصد أو جهل – بين احتجاج مهني داخل جريدة حزبية، وبين أعمال عنف أو تخريب يُعاقب عليها القانون.
وخلط الأوراق خلطًا فادحًا، ليجرّم مطالب عادلة في الأجر الكريم والظروف الإنسانية التي كفلها الدستور ذاته في المادة 27 بشأن العدالة الاجتماعية، وفي المادة 13 التي قررت التزام الدولة بالحفاظ على حقوق العمال.
أي أن الاحتجاج في الوفد لم يكن خروجًا على القانون، بل كان استدعاءً للقانون، وإحياءً لروحه.
لا يمكن لرئيس حزب ليبرالي أن يضع نفسه خصمًا للحريات العامة، وهو يجلس على مقعد سعد زغلول و مصطفى النحاس و فؤاد سراج الدين.
فهؤلاء العظام لم يعرفوا الليبرالية تبرعًا بمال شخصي أو تغطية لعجز مالي، بل عرفوها التزامًا بالقيم، وتجسيدًا لمبادئ الحرية والديمقراطية، وحق المواطن في أن يكون شريكًا لا تابعًا، حرًا لا مملوكًا.
إن الادعاء بأن “الوفد” يموَّل من جيب رئيسه، وأن ذلك يمنحه الحق في أن يتحكم في العاملين بالحزب وصحيفته، هو سقوط جديد في فهم السياسة والحزبية.
فالأموال لا تشتري الحرية، ولا تمنح حصانة ضد النقد، ولا تُشرعن مصادرة الحقوق.
إن أموال الأغنياء لم تكن يومًا بديلًا عن الدستور، ولم تحمِ طغاة ولا مستبدين حين واجهوا شعوبهم.
الاتهام بأن الاعتصام تم تصويره وبثه لقنوات “معادية”، ليس إلا فزاعة مكرورة. فالصحافة ليست عدوًا، ولا الإعلام جريمة. منذ متى صار توثيق احتجاج مهني سلمي خيانة؟
إن استدعاء خطاب “الأعداء” في كل موقف حقوقي هو منطق الأنظمة الأمنية الاستبدادية، لا منطق حزب وُلد من رحم الحركة الوطنية، وقاد ثورة 1919، ودفع شهداء من أجل دستور 1923، وواجه سجون عبد الناصر ومعتقلات السادات، ليظل رمزًا لحرية الوطن.
إن ما كتبه يمامة لا يُحسب على القانون بقدر ما يُحسب على تاريخ الوفد، ويكشف كيف ابتُلي الحزب برئيس تجاوز في الأخطاء والخطايا، حتى صار “بيت الأمة” بيتًا للأزمات.
وإذا كان خالد البلشي نقيب الصحفيين يواجه هذه المذكرة برباطة جأش، فإن الوفد كحزب لا يحتمل أن يُشوَّه تاريخه بهذا الأسلوب، ولا أن يتحول من معقل للحرية إلى نسخة باهتة من خطاب السلطة التي تعادي الحقوق.
دفاعنا هنا ليس عن خالد البلشي كشخص، رغم أنه رمز ونقيب مشهود له بالكفاءة والنزاهة والصلابة، بل هو دفاع عن معنى الوفد ذاته.
عن تلك القيم التي حملها سعد زغلول حين صرخ: “الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة”، وعن تلك الروح التي حافظ عليها مصطفى النحاس و فؤاد سراج الدين في أزمنة القمع.
فمن العار أن يُختزل هذا الإرث في خطاب رجل واحد، يرى نفسه مانحًا للوفد بماله، بينما هو في الحقيقة يسلبه بجهله.
يا عبد السند يمامة، إنك لا تدرك موضعك، ولا تفهم المقعد الذي تجلس عليه.
أنت لا تدير شركة خاصة ولا جريدة هامشية، بل تقف على قمة هرم ليبرالي يمثل تاريخًا ممتدًا لأكثر من قرن.
لكنك أسقطت هذا المقعد في بحر من الأخطاء والخطايا السياسية، وغرقت في نوم عميق بعيد عن روح الليبرالية، وبعيد حتى عن وعي أبسط الوفديين.
إن الوفد لا يحتاج إلى من يموله بماله، او بعوائد بيع المقاعد ،بل إلى من يحرره بفكره.
لا يحتاج إلى من يشتري صمته، بل إلى من يطلق صوته.
لا يحتاج إلى من يُقمع العاملين في جريدته، بل إلى من يحمي حقهم في الاعتصام المشروع.
فالوفد بيت الأمة، وبيت الأمة لا يليق به أن يكون ساحة لتجريم الحريات.
وختامًا، فإن دفاعنا عن حق الاعتصام هو دفاع عن الوفد، قبل أن يكون دفاعًا عن الصحفيين.
دفاع عن معنى الحرية، عن جوهر الليبرالية، عن كرامة بيت الأمة.
لقد كان الوفد دائمًا ملاذًا لكل حر، وقلعة لكل معارض، وصوتًا لكل وطني.
ومن الظلم أن يُحول اليوم إلى ساحة تُجرّم فيها الحقوق وتُكبت فيها الأصوات.
الوفد يستحق أفضل من ذلك.
الوفد يستحق أن يظل بيت الأمة، لا زنزانة لسجناء الرأي.