
أعلن المتحدث الرسمي لوزارة الصحة والسكان عن خطة الوزارة في تأجير العيادات الخارجية بالمستشفيات لشباب الأطباء، وقال بأنها تتوافق مع قانون أصدره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1964؛ والخاص بإنشاء نظام مستشفيات المؤسسة العلاجية، مما أثار الكثير من اللغط بين مؤيدي الرئيس المصري الراحل وبين معارضيه حول كيفية اتهامه ببدء الخصخصة للصحة وهو يطرح السياسة الاشتراكية ومجانية الخدمات الصحية، إضافة إلى اعتبار قرار الصحة خطوة جديدة نحو الخصخصة وتسليع الصحة، ومن ناحية أخرى جاءت المخاوف من استمرارية سياسة الخصخصة الحالية للصحة.
قرار إنشاء مستشفيات المؤسسة العلاجية عام 1964 بين مجانية الصحة والسياسة الاشتراكية:
يثير قرار انشاء “مستشفيات المؤسسة العلاجية” عام 1964 جدلاً متجدداً، باعتباره خطوة بدت متناقضة مع شعارات الحقبة الناصرية التي رفعت لواء الاشتراكية ومجانية الخدمات الأساسية وفي مقدمتها التعليم والصحة؛ والقرار المتعلق بإنشاء المؤسسات العلاجية في محافظات مصر يعود إلى القانون رقم 135 لسنة 1964 الذي نص على تنظيم هذه المؤسسات، بالإضافة إلى قرارات جمهورية أخرى لاحقة، مثل القرار رقم 1210 لسنة 1964 الذي أنشأ مؤسسات علاجية في المحافظات، بهدف تقديم خدمات علاجية متكاملة بأسعار اقتصادية.
كانت المبررات الرسمية لإنشاء المؤسسة العلاجية تشمل كونها جاءت لتلبية احتياجات شريحة من المواطنين تستطيع دفع مقابل خدمة طبية أعلى جودة، ولتحسين مستوى الخدمة الطبية وجعلها أقرب إلى المعايير العالمية، في حين اعتبر المنتقدون أن القرار مثّل تراجعاً عن مبدأ مجانية الصحة، وأنه أول ثغرة فتحت الباب أمام فكرة “العلاج الاقتصادي” داخل المؤسسات الحكومية، وأنه يعتبر بداية تحول تدريجي نحو “خصخصة” جزئية للخدمات الصحية تحت غطاء الدولة.
الإعلان عن بدء تنفيذ تأجير العيادات الخارجية في عدد من مستشفيات المؤسسة العلاجية بالقاهرة لشباب الأطباء:
خلال شهر أغسطس 2025 تناولت الصحف المصرية فكرة وردت عن وزارة الصحة حول تأجير العيادات في المستشفيات الحكومية في إطار مبادرة تعتزم الوزارة تعميمها في بعض المؤسسات الصحية دعمًا لشباب الأطباء وتخفيفَا على الأهالي في بعض الأماكن لتقديم خدمات الكشف لهم في غير مواعيد عمل العيادات الرسمية، خاصة وأن هذا الاجراء يتوافق مع قانون انشاء المؤسسة العلاجية عام 1964.
وتم الإعلان بأن تلك العيادات الخارجية بالمستشفيات التي سوف سيتم طرحها تتبع المؤسسة العلاجية، وسيتم الإعلان عنها عبر مناقصة رسمية تطرح بالوزارة للعمل بالإيجار السنوي لشباب الأطباء، عن طريق نظام المناقصة، حيث يقوم الطبيب المستأجر بمزاولة عمله في العيادة خلال الفترة المسائية بشروط وضوابط محددة، ومن المتوقع أن تقوم لجنة مكونة من الإدارة العامة للعلاج الحر بالوزارة مع نقابة الأطباء، للتأكد من كافة تراخيص مزاولة المهنة وفحص ومراجعة كافة أوراق الأطباء الذين سوف يتقدمون للدخول في المناقصة.
مخاوف وتساؤلات تحيط بقرار تأجير العيادات الخارجية بالمستشفيات بدلا من تشغيلها حسب التوجيهات الرئاسية مثل باقي مستشفيات الصحة:
وبالطبع فقد تم إثارة عدة المخاوف تتناول عدة أبعاد منها سؤال حول نوعية الاطباء الذين سوف يتم التعاقد معهم العيادات بالفترة المسائية ، وهل هم من بين أطباء تلك المستشفيات ؟ ، أم أنهم يتبعون عيادات ومراكز ومستشفيات خاصة وتعاقدوا ليستفيدوا التجهيزات الطبية والآلات والأدوات بالمستشفى الحكومي !!، وسؤال آخر حول الطبيعة المالية والمحاسبية ، وهل سوف يقوم الطبيب الشاب بدفع قيمة إيجار سنوي كاملا أم أنه سوف تتم المحاسبة حسب معدل التردد وبنسبة معينة من الدخل ؟ ، وماذا عن الفريق الطبي من التمريض والخدمات المعاونة ؟ وهل التأجير لمصلحة المريض ليتلقى خدمة طبية من طبيب متخصص نظير اجر اقتصادي، أم أنه لمصلحة الطبيب الشاب الغير متخصص من ابناء المستشفى لزيادة دخله.
وكانت الصحف قد نشرت يوم 28 سبتمبر 2025 تصريحات متحدث الصحة بأن أسعار الكشف في العيادات المسائية ستظل كما هي وفقا للائحة أسعار المؤسسة العلاجية الثابتة والتي لم تتغير، رافضا الخلط غير الدقيق بينها وبين المستشفيات الحكومية التي تدار من الموازنة العامة الدولة وبين هذه المؤسسة ، وقال بأن القرار الجمهوري الصادر عام 1964 نص على إنشاء ما يُعرف بـ «المؤسسة العلاجية»، موضحا أنها جهة اقتصادية لا تتلقى ميزانية من الخزانة العامة للدولة، وأُنشئت لتقديم خدمات طبية «بأجر» للراغبين من المواطنين.
ومن ناحية أخرى ؛ فإن السؤال المطروح والأهم هو لماذا لا يتم تشغيل العيادات لفترة مسائية تابعة للمستشفى مثل باقي المستشفيات الحكومية ؛ حيث أن صحيفة “الوطن” قد نشرت يوم الثلاثاء 27 سبتمبر 2022 بأن مصدرا مسؤولا في وزارة الصحة قد صرح بإنه من المقرر أن يتم تشغيل عيادات مسائية بالمستشفيات الحكومية لجميع التخصصات، وعائد العيادات المسائية يعود إلى الأطباء ، ما يحقق دخلا إضافيا للفريق الطبي يتناسب مع الجهد المبذول في تقديم أوجه الرعاية الصحية ، خاصة وأن هذا القرار سيتم تطبيقه وفقا لتوجيهات رئاسية بتوفير بيئة عمل مناسبة للأطباء ودعمهم ماديا خاصة فيما يقدمونه من جهد مبذول كبير؟؟
وأخيرا تبقى ملاحظة هامة ومربكة في الوقت ذاته تؤكد على وجود تخبط في إدارة منظومة القوانين الصحية:
في سبتمبر 2022، أعلنت وزارة الصحة المصرية عن توجه لطرح خمس مستشفيات تتبع المؤسسة العلاجية أمام القطاع الخاص للاستثمار بهدف تحسين مستوى الخدمة الصحية، وقد استندت الوزارة إلى الحاجة لزيادة الإنفاق في قطاع الصحة نظراً لزيادة تكاليف الأجهزة والأدوية، مما يتطلب استثمارات إضافية ، وتم الطرح بناء على القانون رقم 87 لسنة 2024 في مصر وهو “قانون ينظم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية” ، ويُعرف إعلاميا بـ”قانون تأجير المستشفيات”، والذى يتيح للقطاع الخاص إدارة المنشآت الصحية الحكومية لمدة تتراوح بين 3 و15 عاماً،
والملاحظة الخطيرة هنا تشمل التعارض بين فكرة تأجير العيادات الخارجية بمستشفيات المؤسسة العلاجية لشباب الأطباء وهي فكرة مازالت غامضة عمليا، وبين فكرة تأجير المستشفيات بالكامل للمستثمرين، وبفرض أن طبيبا شابا تعاقد بالفعل على تأجير العيادة الخارجية بإحدى مستشفيات المؤسسة العلاجية حسب قانون عام 1964، وبعدها تقدم مستثمر لاستئجار المستشفى كاملة حسب قانون عام 2024؛ كيف يتم التصرف وقتها، وهذا يعنى عدم وجود رؤية استراتيجية واضحة للرعاية الصحية مستقبلا مما يعرض صحة وسلامة المواطنين للخطر.
وبصورة عامة فإن خطوة وزارة الصحة بطرح عيادات خارجية في بعض المستشفيات ا للتأجير أمام شباب الأطباء لا يمكن فصلها عن سلسلة إجراءات بدأت خلال السنوات الثلاث الماضية هادفة لزيادة مشاركة القطاع الخاص في تقديم الخدمات الصحية ، والتجربة الجديدة لتأجير العيادات الخارجية بالمستشفيات تثير مخاوف من الخصخصة التدريجية للخدمات الصحية الحكومية وانعكاساتها على مبدأ مجانية العلاج الذي يكفله الدستور المصري ، وتلك الخصخصة تأتى في إطار تسليع الصحة ورفع الدعم الحكومي عنها تدريجيا حسب توصيات صندوق النقد الدولي ، ويؤكد على ذلك تراجع نسبة الانفاق الحكومي على الصحة الى 1.2 بالمئة فقط من إجمالي الناتج المحلى بالمخالفة لدستور 2014 ، ومتناقضة مع جميع توصيات لمنظمة الصحة العالمية .